ُيروى عن لورنس العرب أنه كان يذكر دائماً أمام ضيوفه ما سمعه في خيمة بدوي بعدما شرح لمستمعيه بزهو واعتزاز أحدث منجزات التقدم العلمي في الغرب ومنها اكتشاف النجوم في أبعد المجرات. فهو عندما كف عن الكلام التفت إلى الشيخ المستضيف وسأله عن رأيه في ما سمعه منه، فقال الشيخ بتواضع ـ وبشيء من المكر أيضاً ـ «إن ما قلته يا سيد لورنس عظيم حقاً ...ونحن طبعاً لا نرى تلك النجوم البعيدة التي كنت تتكلم عنها، لكننا نعرف جيداً من هو موجود خلفها، وهو اعظم منها ...إنه خالقها الله عز وجل».
المملكة العربية السعودية، رغم الخطوات التنموية الجبارة التي شهدتها منذ تولى الحكم المغفور له بإذن الله الملك فهد بن عبد العزيز، لم تدّعِ في يوم من الأيام انها بلغت الأوج في التقدم والقوة والنفوذ العالمي. ولم تزايد على أحد في أي مجال، مفضلة بدلاً من ذلك التأكيد على أنها تجربة رائدة تنضج بتعقل واعتدال ...متجنبة شطحات التعجل الارتجالي ومغامرات التقليد الببغائي التي سقط فيها، مع الأسف، أشقاء كثر.
ولعل من أبرز ملامح النضج سير القيادة السعودية على مهل، ولكن بإصرار، على طريق التنظيم والتحديث الإداري والسياسي وهو ما تجسّد في إصدار الملك فهد، رحمه الله ، القانون الأساسي للحكم. والحقيقة أن أصواتاً عديدة خارج السعودية كانت وما زالت تلحّ مطالبةً بـ«الجري السريع» ... بينما كانت قوى محافظة بداخلها تتخوف من أي تقدم إلى الأمام. وبالتالي كان القرار المتخذ على مستوى القيادة هو قرار العليم ببواطن الأمور، المحيط بثقافة شعبه ومجتمعه، والمقدّر للجرعات المناسبة للتغيير ...في التوقيت الصحيح.
أمر آخر، يستحق التوقف عنده، ويكشف كم يخطئ البعض في العواصم الكبرى عندما يتوهمون أنهم أضحوا «أدرى من أهل مكة بشعابها»، هو موضوع انتقال الحكم ...
فخلال السنوات العشر الماضية ألّفت كتب ونوقشت أطروحات وعقدت ندوات عديدة للبحث في الآلية المثلى لانتقال الحكم في الرياض. وطبعاً يجب التلميح هنا إلى أن غاية الاهتمام بسلاسة الانتقال كان ضمان استمرار وتيرة تدفق النفط، عصب الاقتصاد العالمي الذي يقف على رأس هرم الاستفادة منه العالم الصناعي الغني، وليس الحرص المزيف على نقاء «الشورى» ومزايا «الديمقراطية» ...
كان الانتقال السلس هاجساً، وبلغت التساؤلات أحياناً حداً من التشكيك الخبيث بل والرخيص. ولكن عندما نفذ قضاء الله، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، جاء الانتقال سلساً سهلاً ... بصورة اعتقد أنها فاجأت عدداً كبيراً من المتقوّلين والمشككين، وبكل هدوء انتقلت المسؤولية من أخ لأخيه وسط مبايعة إجماعية.
اكثر من هذا، الكل يعلم ولا شك، أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كان قد اضطلع عملياً بمعظم أعباء الحكم منذ تراجعت صحة الملك فهد قبل سنتين، وكان من قبل بحكم موقعه السابق كولي للعهد والنائب الأول، شريكاً أساسياً في رسم السياسات الداخلية والخارجية. والمفترض أن في هذين الواقعين أكثر من مؤشر كافٍ إلى عنصر الاستمرارية والثبات.
ثم أن في المجتمعات العربية التي حافظت على بعض الثوابت والتقاليد في تداول السلطة، اعتبارات وحصافة فطرية، يبدو ان المراقب الغربي مهما بلغ من علم ما زال عاجزاً عن استيعابها كما يجب، وقد لا يشمل قاموس السياسات المتقدمة تقنياً هذه الاعتبارات والحصافة في دول تتفنن قياداتها بالخروج عن النص المكتوب، وتبرير ما يمكن تبريره شكلياً من انحراف عن روح التمثيل الشعبي الحقيقي.