من المرتقب أن يزور الرئيس الصيني هو جنتاو واشنطن لتأكيد وتبيان ما وصفته صحيفة "فاينانشيال تايمز" اللندنية بـ"العلاقات الثنائية الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين". يذكر أن رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج, كان قد زار واشنطن خلال شهر يوليو المنصرم, بغية إبرام ما جرى وصفه بأنه "شراكة عالمية" بين دلهي وواشنطن. وأتيحت لرئيس الوزراء الهندي خلال زيارته تلك, فرصة نادرة واستثنائية خاطب خلالها اجتماعاً مشتركاً لأعضاء مجلسي الكونجرس الأميركي. هاتان الزيارتان المتلاحقتان لزعيمي أكبر دولتين كثافة سكانية في العالم, إنما تشيران إلى التحولات التي بدأت تطرأ على علاقات الدول العظمى مع بعضها بعضاً.
ولعل الأمر الأول الذي يسترعي الانتباه, هو أن الولايات المتحدة الأميركية, لا تزال الدولة العظمى بلا منازع, في المجالين العسكري والتكنولوجي, إلى جانب تفوقها في جانب الثروات المملوكة للأفراد. هذه حقيقة لا مراء فيها, غير أنه صحيح في الوقت ذاته, القول إن الولايات المتحدة لم تعد لاعباً وحيداً في حلبة التفوق هذه. فقد واصلت الصين نموها الاقتصادي الملحوظ, بمعدل 9 في المئة سنوياً, خلال الربع الأخير من القرن الماضي. أما في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي, فقد ارتفع ذلك المعدل إلى 9.5 في المئة سنوياً. إلى ذلك فإن الهند ليست ببعيدة عن هذا المعدل, إذ يبلغ معدل نموها الاقتصادي السنوي 6 في المئة, مع العلم بأن الموازنة العامة الهندية, تعد واحدة من أقوى الموازنات العالمية على الإطلاق, لكونها تتضمن احتياطيات كبيرة وضخمة, مقابل انخفاض معدل مديونيتها الخارجية.
من جانبها تصنف وكالة المخابرات المركزية الأميركية, إجمالي الناتج المحلي الصيني في المرتبة الثانية عالمياً, أي بما يعادل نحو 62 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الأميركي, وبما يقارب ضعفي مثيله الياباني, الذي يجيء في المرتبة الثالثة عالمياً. أما الصادرات الصينية إلى دول الاتحاد الأوروبي, فقد بلغت ثلاثة أمثال حجمها خلال الست سنوات الماضية, بل ويتوقع لها أن تتفوق على الصادرات الأميركية لدول الاتحاد, بما يتجاوز الخمسين مليار دولار, في وقت قريب ربما لا يتجاوز العام المقبل.
وعليه, فما زيارة الزعيمين الهندي والصيني لواشنطن, بما لقياه من حفاوة وترحيب ومراسم استقبال رئاسي لكليهما, سوى مؤشرين قويين على دنو اللحظة التي أصبح فيها لزاماً على الولايات المتحدة الأميركية, أن تغير نظرتها إلى موقعها ودورها في مسرح القوة والعلاقات الدولية. فقد أضحى واجباً عليها إفساح المجال لعملاقين جديدين كبيرين, غير أنهما جد مختلفين عن بعضهما بعضاً. فالهند هي موطن أكبر ديمقراطية في العالم على الإطلاق, في حين تقف الصين موطناً لأكبر أتوقراطية في العالم الآن. كما ينظر إلى الهند باعتبارها دولة لا تمثل تهديداً أمنياً للولايات المتحدة الأميركية, على خلاف الصين التي تقض مضاجع واشنطن وتثير قلقها, بسبب تنامي قوتها الاقتصادية والعسكرية معاً.
تأكيداً لهذه المخاوف, يذكر أن مجموعات شركات CNOOC النفطية الصينية العملاقة, كانت قد خصصت مبلغاً نقدياً بلغ قدره 18.5 مليار دولار لشراء شركة UNOCAL النفطية الأميركية المتوسطة في شهر يوليو الماضي. غير أن مجموعات الضغط الأميركية المعادية للصين, طالبت بوقف تلك الصفقة فوراً, استناداً على مبررات وحجج أمنية. ونتيجة لذلك الاعتراض, سحبت المجموعة الصينية عرضها, دون أن تقلل تلك الحادثة من حقيقة القوة المالية الصينية, ولا من ظمأ الصين الذي لا يرتوي للنفط. وبهذه المناسبة, نشير إلى أن الاحتياطيات المالية الصينية بلغت نحو 711 مليار دولار, خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري. وفيما لو تواصل هذا المعدل, فإن المتوقع أن تصل إلى 1000 مليار دولار, بحلول شهر يونيو من العام المقبل 2006.
يذكر أن واشنطن قد أصابتها صعقة ذعر أخرى الشهر الماضي, لدى إعلان اللواء زو شينجهو –عميد جامعة الدفاع المدني الصيني- عن استعداد بلاده لاستخدام السلاح النووي ضد الولايات المتحدة, في حال نشوب أي نزاع مستقبلي بينهما حول مصير تايوان, خاصة إذا ما أصرت واشنطن على مواصلة تدخلها في تقرير مستقبل الجزيرة. واستطرد شينجهو قائلاً إن بلاده سترد على تدخل كهذا, سارداً الكثير من التفاصيل المثيرة للقلق حول كيفية الرد. وضمن ذلك ما ورد في قوله "عندها سنكون على أهبة الاستعداد لتدمير كافة المدن الواقعة شرقي زيان وعلى الأميركيين أن يتوقعوا إقدام الصين على تدمير مئات المدن هناك". وكأن لسان حال "شينجهو" يقول للأميركيين:"ارفعوا أيديكم عن مضيق تايوان. فالصين مصممة على استخدام القوة, لاسترداد سيادتها على تلك الجزيرة". وبذلك فإن في هذا التصريح تحدياً صارخاًَ لتاريخ التفوق طويل الأمد, الذي عرفت به الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة الآسيوية.
فهل يشير هذا إلى أن واشنطن وبكين موشكتان على خوض صدام عسكري؟ كلا بالطبع.. على الأقل في الوقت الحالي. فالولايات المتحدة والصين, تعدان شريكين تجاريين رئيسيين, ويتسم اقتصادهما بالتشابك العميق. وفي سبيل الترويج لصادراتها الضخمة, في ذات الوقت الذي تكبح فيه جماح ارتفاع قيمة عملتها, لجأت الحكومة الصينية إلى شراء كميات كبيرة من الدولارات, مع استثمار عائدات تلك المشتريات, في السندات الأميركية. وعلى حد قول الكاتب الصحفي الأميركي بول كروجمان, فإن الولايات المتحدة اليوم, تعد دولة عظمى تعيش على الائتمانات. ولكن ما الذي سيحدث لقامة هذه الدولة العظمى, فيما لو سحبت الصين بطاقة الائتمان هذه من واشنطن؟
يذكر أنه وحتى لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي قبل عقد ونصف العقد من الآن, طغت على العلاقات الدولية, ظلال الحرب الباردة بين المعسكرين. وفي سبيل مواجهة كل خصم للآخر, لجأت الدولتان إلى تكوين تحالف دولي موال. فقد كان هناك حلف الناتو في موازاة حلف وراسو, بينما حاولت دول عدم الانحياز –التي تمثلها قوى أخرى مثل الهند- إيجاد موطئ قدم ثالثة لها بين هذين الحلفين. ولكن الملاحظ أن الهند تخلت عن موقف حيادها السابق, وواصلت اقترابها أكثر فأكثر من الولايات المتحدة. ومن جانبها تنظر واشنطن إلى دلهي باعتبارها مكافئاً عسكرياً محتملاً لبكين. وفي سبيل إغراء دلهي للمضي في هذا الاتجاه, عرض الرئيس بوش على رئيس الوزراء الهندي, تبادل التعاون النووي السلمي التام بين البلدين, على الرغم من أن دلهي لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية!
وسرعان ما لاحظ المراقبون ازدواجية المعايير والمواقف في هذا التسامح النووي مع الهند, مقابل التشدد الأميركي تجاه كل من طهران وبيونج يانج. إن هذا تجسيد لانتصار سياسات القوة, على سياسات حظر الانتشار النووي –كما وصفه جوزيف سيرنسيون من مؤسسة كارنيجي الوقفية للسلام الدولي- وتلك هي تبدلات علاقات القوى, التي يجب على العرب الانتباه لها, وهم المستبعدون عنها تماماً حتى هذه اللحظة.