الشعب الكردي هو من أكبر شعوب العالم المحرومة من حقها في دولة؛ في دولة مستقلة تُبرز هوية هذا الشعب وتسمح له بأن يمارس، كما يرتئي، حقه في تقرير مصيره. الحصة العربية في هذا الحرمان أقل بما لا يقاس من حصص الآخرين دولياً وإقليمياً، لا بل إن بعضاً من هؤلاء الآخرين هو من ساهم في حجب حقوق كثيرة عن العرب. ويمكن أن نزيد أن أفضل <<نص>> توصل إليه الأكراد لتنظيم تعايشهم مع شعوب أخرى كان مع العرب (في انتظار الدستور العراقي الجديد) ولو أن الظروف التي حالت دون تطبيقه معروفة.
كان يتمنى المرء لو أن جلال الطالباني، أو غيره، أصبح رئيساً في سياق تطور طبيعي وديموقراطي للعراق وللفكر القومي العربي. كان ذلك سيكون دليل عافية ونمو، وبرهاناً على أن حل مشكلة الأقليات هو الوجه الآخر، والتتمة المنطقية، لنجاح الأكثرية في التصدي للتحديات المطروحة عليها.
لا مجال، في عالم اليوم، لمثل هذه التمنيات إلا بصفتها كذلك. لا في ما يخص الوطن الكردي ولا الرئاسة الكردية للعراق. هذه التمنيات في واد والواقع في واد. ورئاسة الطالباني تبدو نتاج ثأر غربي من العرب، وثمرة فرعية لهذا الصدام المتجدد بين العدوانية الأميركية والواقع العربي المتعثر، ولا علاقة لها، إطلاقاً، بأي تقدم نحو الديموقراطية، باعتبار أن ما كان يمكنه أن يكون ذروة في هذا التقدم الديموقراطي (رئاسة كردية للعراق) إنما يحصل في ظل اندفاع العراقيين نحو العجز عن بناء أي مستقبل مشترك وفي ظل العجز عن توليد أجوبة مشتركة عن الاحتلال.
ترمز رئاسة الطالباني إلى السلوك الأقلوي الذي نشهد نماذج منه في المنطقة حيث تردّ الأقوام والمذاهب والأعراق على الأكثرية المأزومة، والمتخبطة في مآزقها، والداخلة في سلوك منغلق ودفاعي، بالارتباط بالمشاريع الأجنبية الساعية إلى إخضاع المنطقة وأهلها. وينخرط الجميع في هذه الرقصة الجهنمية حين تبدأ الأكثرية تخبط خبط عشواء وحين تستقوي الأقلية فلا تفعل سوى تعميق الأزمة.
يبدو، أحياناً، أن في <<قلب>> كل أقلية، وكل وعي أقلوي، شيئاً من الرغبة في محاكاة النموذج الصهيوني بصفته المثال على نجاح حفنة قليلة العدد في امتهان عشرات الملايين، ومصادرة حقوقهم، وإذلالهم، والتنكيل بهم أو اعتراض طريقهم المشروع نحو التحرر والنهضة.
هناك في سلوك القيادة الكردية، مع حفظ الفارق الكبير، شيء من تأديب العرب، في لحظة ضعفهم، على أخطاء ارتكبوها. ولذا تتصرف هذه القيادة، راهناً، كمن يحاول اقتناص فرصة، وكمن لا يريد إقفال نافذة الاحتمال المفتوحة أمامها.
إن الرغبة الكردية الفعلية، في العراق، هي الانفصال والاستقلال الناجز. هذه الرغبة تعمّ القيادة والقواعد والنخب والشباب. ولقد تأكد ذلك من خلال الاستفتاء الذي أجري على هامش الانتخابات الأخيرة، إذ اقترع 98 في المئة (الإجماع تقريباً) لصالح الاستقلال. ومع أن العوائق دون ذلك ليست عراقية، ولا حتى عربية، فإن السياسة الكردية تبدو موزعة بين الرغبة المكبوتة، أي الاستقلال المحرّم، وبين الاستفادة من الواقع العراقي المخلّع. ويترجم ذلك نفسه برفع شعارات الحد الأقصى، تحت سقف الاستقلال، وبالإصرار على انتزاع مواقع حاسمة ضمن السلطة المركزية.
يريد الأكراد اختيار اسم للجمهورية الجديدة ينص على الفدرالية، ويريدون التحكّم بموقع الشريعة في إلهام القوانين، ويريدون النص على قوميتهم التكوينية للبلد، ويريدون لغتهم لغة رسمية لا لغة وطنية فحسب، ويرفضون أي نص على الانتماء العربي، ويصرون على تعديل حدود الإقليم لتشمل كركوك وبعض الموصل، ويطالبون بحصة في الثروات الطبيعية على قاعدة التعديل الحدودي، ولا يرتاحون إلى وحدة البلد إلا إذا كانت اختياراً، ويلوّحون بالحق في ازدواجية الجنسية وضرورة تمثيلهم في البعثات الدبلوماسية كفريق <<مستقل>>. إلى ذلك، يرون أن <<البشمركة>> هي جزء من الجيش عامل في كردستان، ويضغطون من أجل التسامح مع وجود عسكري أجنبي مديد، ويعتبرون أن العداء لإسرائيل مفروض عليهم ومستورد، وهناك بينهم من سبق له التنظير والعمل من أجل إقامة أفضل علاقات ممكنة بين إسرائيل وكردستان على أساس أن إسرائيل سند استقلالي للأقليات المظلومة كلها.
إن المشروع المعلن هو امتلاك الحق الحصري في كردستان بعد تعديل الحدود، وامتلاك كلمة حاسمة، أو حق النقض، في بغداد. ويستقوي هذا المشروع من تجربة فترة <<الانفصال الواقعي>> بعد 91، ومن الانشقاق المذهبي بين العرب، ومن الاستعداد لتقديم الخدمات إلى الغزوة الكولونيالية. وهو يستفيد، أيضاً، من الانهيار المريع في الوضع العربي العام وتراجعه الشامل عن قدرته على الإمساك بمصيره، وعجزه عن بلورة أنظمة ذات قاعدة تمثيلية، واختناقه الثقافي والحضاري.
<<نحن شعب وأنتم طوائف>> هذه هي الفكرة الضمنية (والصحيحة؟) التي تحرّك السياسة الكردية، وتُنتج وعياً يقول إن الحد الأقصى من <<الخلاص>> الكردي شديد الارتباط بالحد الأقصى من <<الخراب>> العراقي أو العربي. ويمكن أن نضيف أن هذا الخلاص مرتبط، أيضاً، بتراجع القدرات في الدولتين المركزيتين المجاورتين: تركيا وإيران.
لا يمكن للعرب مطالبة الأكراد بمشروع إنقاذي للمنطقة. ليست تلك مهمتهم، ولا هذه <<رسالة>> الأقليات. لكن من الضروري تنبيههم، من موقع الصداقة، إلى أن ما يتأسس على لحظة الإنهاك العربي هذه قد لا يعمّر طويلاً في حال التقطت المنطقة أنفاسها. يعني ذلك أنهم مطالَبون، ما داموا يملكون القدرة، اليوم، أكثر من غيرهم، على إيجاد الصيغة الجامعة بين مستقبل واعد لهم ومستقبل واعد للعرب. ففي مثل هذه الفترات تُختبر الأقليات (ينطبق الأمر على لبنان أيضاً). وعنوان الاختبار هو حسن التمييز بين الانجراف وراء غرائز الفرصة السانحة اليوم، والرهانِ على المستقبل وتسليف المحيط ما يمكن البناء عليه غداً.
هل يدرك الأخوة الأكراد أن العروبة استثمار رابح على المدى البعيد (وهو ليس بعيداً بحساب تاريخ الشعوب) مهما بدا خاسراً الآن؟