ما يهمنا في هذا المقال هو العلاقة بين الفكر والسلوك .... الفكر كتعبير معقد عن الخبرة ، والفكر السياسي ( خصوصاً ) كحصيلة للخبرة في الحياة الاجتماعية الاقتصادية ، وعلاقته بالسلوك السياسي الموجه نحو تغيير أو إعادة إنتاج شروط هذه الحياة ، فالبشر يعيشون ويعانون ويدركون ويكونوا معارف وخبرات يتم تلخيصها وتداولها على شكل أفكار ، ثم من هذا العالم الذهني المثالي ينطلقون نحو السلوك الذي يخدم مصالحهم وإرادتهم . وهكذا يصبح الذهن الاجتماعي مكان تجمع الأفكار العامة ، و تأطير أنماط الرأي العام ، لكن تنظيم محتوى هذا الذهن يتم عبر الفلسفة ، فالفلسفة هي الموقف الوظيفي من عالم مختلط وغير منظم من المعارف والأفكار والقيم والأحكام ، الفلسفة تنظم عالم المفكر في سياق عقلي منطقي متماسك ، وتضعه في قالب لغوي منضبط ، لتسهل اختيار أنماط السلوك بناء على معرفة ودراية وترابط معقول بين المعرفة والغاية ، وبذلك تسهل الفلسفة عملية بلورة وإنتاج أيديولوجيا تتوجه نحو الواقع للتأثير فيه ، فتكون الأيديولوجية عندها تعبيراً عن الانتقال من عالم الفلسفة وقبله الفكر والذهن ، نحو السلوك والبرنامج التنفيذي الذي رغم كونه ينطلق من عالم الفكر لكنه يصل به عالم التنفيذ ، فيحسب الإمكانات وينظم الجهود ويضع البرامج الكفيلة بالتأثير المادي على وقائع الحياة وشروطها ، كما أن الأيديولوجية من جهة ثانية هي أيضا مشروع يتم بواسطته الانتقال من الفردي نحو الجماعي ، من الخاص نحو العام ، لأنها تقوم بصياغة المصالح الفردية المختلفة في مشروع عام يحققها جميعاً ومعاً .
وأداة الأيديولوجيا هي الجماعة السياسية التي تؤمن بها وتعمل من أجلها وتراكم الجهود في سياقها . فيشعر جميع المنضمين إلى أيديولوجيا ما أن مصالحهم المباشرة ( بما فيها رغباتهم ) سوف تجد طريقها للتحقق بطريقة ما , وبنسب مقبولة ضمن الهدف السياسي العام الذي تضعه الأيديولوجية ( فهدف الديمقراطية مثلاً سوف يعني للكاتب وللعامل معاني مختلفة لأن كل منهما سوف يستخدمه لتحقيق غاية مختلفة ) ومع ذلك يجتمع كلاهما عليه ، وكذا الحال في الليبرالية ( كمفهوم للحرية ) فهي تعني للرأسمالي حرية التنافس والإنتاج والتبادل ، وقد تعني للمجتمع المقموع الخلاص من الشمولية التي يعاني من آثارها كل فرد من أفراده بطرق ونسب مختلفة ، ليصبح مشروع الخلاص منها هو مشروع جميع من ضاق ذرعاً بالتعسف والاستبداد وعبادة الفرد والظلم ... وهكذا وصولاً نحو أيديولوجيات أكثر تحديداً وخصوصية مصممة لتخدم شرائح اجتماعية محددة وصغيرة ، وهو ما يسود بعد انجاز المهام الوطنية الكبرى ، وبعد استقرار الحياة السياسية الديمقراطية .
فالليبرالية هي أولاً فلسفة .. ومع ذلك يمكنها أن تتبلور في أيديولوجيا سياسية عامة ثم مخصصة ، فهي بشكل ما يمكنها أن تكون أيضاً أيديولوجيا بالتعريف العملي العلمي ، وهي أيضاً تريد أن تقيم الدولة والدستور على أساسها , مثلها مثل بقية الأيديولوجيات الشمولية وغير الشمولية ، والفارق يكمن في أن الليبرالية تقيم الدولة على أساس حرية الفرد وحقوقه وحق الاختلاف ، وهو ما يؤسس للمواطنة الحرة ، بعكس الأيديولوجيات الشمولية التي تصادر حق الفرد لو تعارض معها .. وعندما تحدثنا في الوثيقة التأسيسية عن الدولة الأيديولوجية الشمولية قصدنا تلك التي ترفض الاعتراف بالفرد ، ولم نقصد أن الليبرالية ليست أيديولوجية هي الأخرى بشكل من الأشكال ..
وإذا كانت الليبرالية فلسفة وأيديولوجية سياسية ، تكون الديمقراطية مجرد نظام حكم يعبر عن هذه الأيديولوجيا ، وتطبيق لها في عالم النظم السياسة ، وهي بذاتها هدفاً مباشراً لهذه الفلسفة والآيديولوجيا . ، لأنها تهيئ الفرصة الحقيقية للحرية الفردية ولحقوق الفرد الراغب في الانضمام للجماعة ، والعمل معها دون التخلي عن سيادته ، فحرية كل فرد هي التي تكون المجتمع الحر , وهي التي تصون النظام الديمقراطي ، وانطلاقاً منها وحدها يمكن للمجتمع أن يحقق غاياته الجماعية الكبرى . أما تجاوز هذه الحقوق الفردية فسوف يجر النظام السياسي سريعاً نحو مطب الاستبداد ويجيره لخدمة مصالح أنانية وضيقة .. وهذا ما تثبته التجارب المريرة .. فكل أيديولوجيا سياسية تتغاضى عن الحقوق الفردية لصالح شعار عام وهدف مغري ، تهمل الوسيلة وبالتالي تخسر الغاية ..
وإذا قام العلم باستنباط المثالي من المادي ، والعلاقة من الظاهرة والمفهوم من الوجود ، وشكّل للحقيقة جسداً وأداة خالصة منزهة ، فإن الفلسفة ليست علماً لأنها ليست منزهة عن الغاية ، وتخدم فقط الحقيقة بذاتها ولذاتها ( حتى لو كانت تدعي ذلك ) ، فكل فلسفة تنطلق في عملية تنظيمها للمفكر من موقف أيديولوجي ضمني مضمر فيها يوجه جهودها لتعود في النهاية لتهيئة الأرض نحو إعادة إنتاج تلك الأيديولوجيا بشكل موسع .. فالفلسفة هي توجه نحو الفكر من موقع محدد ينتمي إلى عالم الواقع ، الفلسفة موقف قيمي من المفكر ، وآليّة لتنظيمه وتسهيل التعامل معه انطلاقاً من حاجات ومصالح محددة ، وعندما تتغير شروط حياة الناس يعيدون تنظيم أفكارهم ليستنبطوا الأجوبة على الأسئلة الجديدة المطروحة ، وهكذا تصبح الفلسفات آليات فكرية لمعالجة قضايا مختلفة .. وهنا يمكن لفلسفة معينة أنتجتها خبرة اجتماعية معينة في ظرف تاريخي محدد أن تكون صالحة لمعالجة ظرف تاريخي آخر ، فالحامل الاجتماعي الذي يتبنى الفلسفة ويطبقها هو حامل متغير ، كما أن الفلسفة ذاتها قابلة للتطوير والتعديل والتطور ، والهجرة والانزياح والتبادل ، ومن الجمود أن ننظر للفلسفة على أنها مقترنة فقط بصانعها الأول ، لأنها نتاج قابل للتداول والاستعمال بطرق وأشكال ومواقع مختلفة .
وكل أيديولوجيا هي أيضا شركة مساهمة مغفلة ، تحاول إلغاء التناقضات الفردية وتوحيد الأفراد الذين ينكرون خصوصيتهم شكلياً , في سياق عملية الاندماج ضمن شعاراتها العامة المزينة بمسحة من القيم والنبالة ، لكن يتوجب على الأيديولوجيا في النهاية أن تترجم إلى حصص فردية معروفة ولا بديل عنها ، فالآيديولوجيا تجيد نفش الريش والإيهام أنها هي فقط الحق والحقيقة والخير والأخلاق ، وأنها منزهة عن الأنانيات ، ولكن كل ذلك لا يجب تصديقه ، و لا يجب الاكتفاء بما تقوله الأيديولوجيا عن نفسها ، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار نوعية العاملين في خدمتها ونوعية مصالحهم ومنافعهم ومطالبهم منها ، وهذا ما يحدد الجوهر والهدف الحقيقي والفعلي لكل أيديولوجيا ، فالشعار أحياناً يكون كاذباً ومناقضاً للممارسة ، ومن رفعوا شعار الحرية مارسوا الاستبداد ، لأنهم عسكر وطلاب سلطة مطلقة ، ومن رفعوا شعار إلغاء الملكية الخاصة سرقوا الأوطان واحتكروا الثروات والمنافع وسخروا الدولة لخدمة شخوصهم وحولوا الوطن لإقطاعة خاصة بهم .. أي أن المطلوب دوماً هو التأكد من أدوات الأيديولوجيا ووسائلها قبل الحكم عليها ، وهي التي تحدد جوهرها ، وليس شعارها المرفوع ، و الذي هو مجرد ريش ملون في الكثير من الأحيان . نضرب مثلاً شعار الحرية والعدالة الطنان والذي رفعته أحزاب مستبدة وظالمة وفاسدة ومجرمة سلوكاً وتكويناً وممارسة .
إن ساحة صراع الأيديولوجيات هي الفلسفة , ونقد الأيديولوجيا يتم بالفلسفة ، وتطورها يتم بتطور الفلسفة .. وكل نقد ونقاش سياسي هو جهد فلسفي يهدف لإعادة تنظيم الأفكار لتنتج نمطاً معيناً من السلوك , يحقق غاية مبطنة مسبقا وموقف محدد . وتقع ضمن هذا السياق عملية اعتبار أن الليبرالية هي مجرد أيديولوجيا اقتصادية خاصة بطبقة من المستثمرين الذي يريدون التحرر قدر الإمكان من التزاماتهم الاجتماعية ، وإطلاق حرية السوق وحدها بعد إلغاء دور الدولة في الضمان الاجتماعي ، وهذه العملية لا تخفي الرغبة في إلغاء وجود الليبرالية كفلسفة و كآيديولوجيا للحرية ، عبر قيامها بتعميم الخاص ( المرتبط بنوع معين من الليبرالية ) على العام , وبالتالي إلغاء مشروعية وجودها ، ومثل هكذا عملية تأتي ضمن سياق فكري فلسفي يضع مقدماته بشكل تعسفي ومبرمج . تعبر عنه الماركسية الأصولية المدرسية التي رغم ادعائها بالجدل لكنها كانت أقرب إلى اللاهوت الصنمي .
وعليه نقول أن المجتمعات التي عانت كثيراً من طفيلية الدولة وتسلطها الشمولي , ومن نوع حديث من الإقطاع السياسي الجائر الفاسد , تصبح مهيأة لتبني فلسفة الحرية ورفع شعار الليبرالية ، من أجل تحقيق الحرية وضمانات الفرد , في مواجهة نظام و سلطة استباحته وأنكرته نهائياً , وحولته لحيوان داجن لا حول له ولا قوة ، يعمل بأمر ويصفق بأمر ويبكي بأمر ويرقص بأمر ويبايع بأمر ، مجرد عبد رقيق بدون أجر ولا كرامة ولا حقوق ، سلبت منه كل مقومات وجوده وشخصيته لصالح استلاب كامل ومطلق .. وبعد كل هذا يأتي من ينكر عليه حقه في تبني الليبرالية لمجرد أنه غير برجوازي ( باعتقاده أن الحرية فقط لهؤلاء ) أما العبيد المضطهدين فعليهم (لكي يحق لهم المطالبة بالحرية ) أن يمتلكوا عشرة ملايين ( باعتبارها الحد الأدنى للإفادة من القانون رقم عشرة الشهير ) ، وهنا قد يقول من يقول : ليطالبوا بالحرية وليس بالليبرالية .. ونقول لماذا هذا الفصل بين الفلسفة وأيديولوجيتها .. ولماذا نصر على تقزيم الليبرالية إلى مستوى أيديولوجية فئوية ، مع أنها فلسفة عامة ومتبلورة ، وناضجة ومهيمنة ، طبعت النهضة الحضارية الحديثة بإجمالها .. السبب بسيط لأنهم ماركسيين وضد الرأسمالية ، ويريدون القول أن الاشتراكية الماركسية وليس الرأسمالية هي الطريق نحو الحرية والازدهار , وهو ما ثبت عكسه بالمطلق ، دون أن نهمل مشاكل وأخطاء وعثرات الرأسمالية ووحشيتها في الكثير من الأحيان ، خاصة عندما لا تتشارك مع التزام النظم السياسية بمجتمعاتها ، وعندما تتخلى عن دورها في ضمان كرامة وحقوق كل فرد كشرط لا بد منه للقبول بقانون السوق الحر ..
هنا يتضح الخلاف بين الاشتراكية ( الاجتماعية ) وبين الليبرالية فكلاهما له نفس الهدف ، ولكن الوسيلة مختلفة بين دولة تملك وتوزع وبين اقتصاد حر ودولة تضمن ألا ينهار أحد بنتيجة التسابق الحر نحو البؤس والفقر والحرمان .
ويتضح أيضا الخلاف حول مصطلح الليبرالية والحرية ، فالحرية السياسية كشرط للديمقراطية تطرح باستقلال تام عن نمط الإنتاج ، فهل هذا الاستقلال صحيح وقائم أم أنه تعسفي ، وكيف تكون السياسة منفصلة عن الاقتصاد و تكون البنى الفوقية متناقضة مع البنى التحتية ( ماركسيا هذا غير مقبول ) وبالتالي يمكننا اعتبار موقف الماركسيين متناقض مع مقدماتهم ومع نظريتهم ذاتها . فنقول أن السياسة هي أداة تغيير الاقتصاد وهي التجسيد الفوقي لبنى الحياة الاجتماعية الاقتصادية المنعكسة في الثقافة التي سرعان ما تبلور تعبيراتها في الأيديولوجيات والسياسات و البنى والنظم السياسية . و لا بد من روح واحدة وانسجام بين مكونات الحلقة الاجتماعية وهو ما تقول به الماركسية ، أو أن هناك تناقض ، وبالتالي ظرف ثوري تتغير بموجبه تكوينات الحلقة ، وعلى هذا لا يمكن أن تنتصب نظم سياسية للحرية على قاعدة شمولية ، أي على علاقة إنتاج مقيدة بشدة وتلغي كل فرصة و كل حرية للفرد ، بل تلغي وجوده وملكيته الخاصة ، ولا تعترف به إلا كرقم في سياق مشروع ثوري وغايات تتجاوز الفرد كثيراً .. فإذا طرحت الحرية انطلاقاً من بنى تحتية شمولية فهي ليست إلا وسيلة للخلاص منها ، وليست تعبيرا عنها ، ولا تجسيداً لها ولا وسيلة لإعادة إنتاجها . لأن الديمقراطية السياسية هي على نقيض ولو جزئي مع الشمولية الاقتصادية ومزاوجتهما لم توفق تاريخياً , فسرعان ما انهارت النظم السياسية التي تتبنى الاقتصاد الشمولي نحو الاستبداد .
من هنا جاء شعار نهاية الأيديولوجيا لا ليعبر عن نهاية دور الأيديولوجيات في الحياة السياسية الداخلية ، ولا ليقول أن الليبرالية ليست أيديولوجيا ، بل ليقول أن عصر بناء المجتمعات لأهداف أيديولوجية قد انتهى بنهاية عصر القوميات وعصر الإمبراطوريات الدينية والمعسكرات الأيديولوجية .. وأن المجتمع هو الآن هدف بذاته ولذاته وبغض النظر عن طموحاته ، أو أحلام ثورييه . أي أن تشكيل الدولة والمجتمع ليس مجرد وسيلة لتحقيق الحلم القومي أو الطبقي أو الأخلاقي أو الديني .. نهاية الأيديولوجيا تعلن الاعتراف بأولوية الفرد والمجتمع على كل عقيدة لاحقة ، وهي ما تدعوا له الليبرالية . مع أنها أيديولوجيا كذلك . ومن هنا الالتباس في المفاهيم الذي تسبب في تشويش الحوار ..
ونهاية التاريخ تعني نهاية عصر الأمم المؤدلجة كلاعبات في مسرح التاريخ ، وولادة عصر المجتمعات الديمقراطية التعددية ذات المصالح , التي تدخل مع بعضها مرحلة من التعاون والتبادل بغض النظر عن مشاريعها الخارجية , التي لا يجب أن تعني تدمير الآخر ونفيه وإلغاءه أو دمجه في الذات .. وهنا تأتي آليات العولمة المرنة ، لتنظم عملية اندماج طوعي وتدرجي في نمط لم يحدده أحد كآيديولوجيا مسبقة ، بل تبدعه البشرية في طريق ارتقائها . وهنا تتجلى عملية المنافسة بين قيم الحضارات الكبرى التي تحاول أن تقدم كل منها أكبر كمية من المساهمة في تكوين العالم ، لأن المرشح هو ظهور نمط حضاري جديد وكوني يعجن كل المكونات التاريخية المستقلة للحضارات ، ويصوغ منها نمطاً جديدا ، يفترض فيه أن يضم ويحتوي نسباً غير متساوية من مساهمات الشعوب والأمم .
فصراع الحضارات ليس صراعاً وصداماً عسكريا يلغي به كل طرف الطرف الآخر ، بل هو صراع فكر وعقل وفلسفة وأدب وفن ووظيفة وفعالية ، وبمقدار ما تثبت أي منظومة معرفية - قيمية أهميتها وفعاليتها ( كما هي الحال مع السلع الأخرى ) بمقدار ما تثبت مكانها في البنيان الجديد وتعزز مساهمتها .
ونحن عندما نطرح صياغة الدستور على أسس الفلسفة الليبرالية نؤكد تفاهمنا مع الحداثة والعولمة ومتطلبات العصرنة والاندماج ، دون أن يعني ذلك إلغاء الهوية والخصوصية التي عليها أن تساهم بنصيبها في ذلك ، ودون إسقاط مبدأ التعاون الإقليمي ، والاندماج القومي ، الذي يمكنه أن يتم في سياق العولمة وضمن مناخ الديمقراطية وليس ضدها ونقيضها .
فالليبرالية كفلسفة ، ومن ثم كآيديولوجيا فرضت انتصارها وسيادتها ونمطها على كل الأشكال السياسية والاقتصادية ، والديمقراطية هي تجسيدها السياسي الحقيقي والشرعي في مجال أنظمة الحكم السياسية ..