إذا كان تقرير لجنة التقصي برئاسة المحقق الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد قد أفضى إلى تشكيل مجلس الأمن الدولي لجنة التحقيق الدولية برئاسة المحقق الألماني ديتليف ميليس، باعتبار أن تقرير فيتزجيرالد قد نزع الأهلية عن الأجهزة الأمنية اللبنانية، وبالتالي شكل عنصراً حاسماً في إقالة قادتها، ومحاولة إعادة هيكلتها وفق موازين اللعبة المحلية اللبنانية" التحاصصية" الجديدة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان، فإن تقرير ميليس الذي تعمد الموازنة الدقيقة ما بين الإجرائية التوصيفية وبين ما قبل المسودة الأخيرة، وما بين" كيف تم اغتيال الحريري؟"، وبين ترقب الجميع للجواب عن سؤال" من اغتال الحريري؟"، الذي سيكون على الأرجح في شكل استنتاج من التقرير النهائي الموعود، أو سيكون متداخلاً بين حكاية من حرض على اغتيال الحريري وبين من اغتاله فعلاً،-حيث لا يشترط في مثل لعبة الجرائم" المعقدة" هذه أبداً أن يكون المحرض هو المنفذ بل يمكن لمنفذٍ آخر أن يقوم بذلك لاعتبارات تتصل عموماً بمنطق" الأمم"- سيمهد- أي التقرير النهائي- لنقل الملف إلى محاكمةٍ دوليةٍ، تتعارض من الناحية السيادية مع القرار 1559 لكن لن يعدم الكثيرون تبريره و"توليفه" تأويلاً مع روح ذلك القرار.
تقرير ميليس وفر هذه المقدمة التي سيكون لها ما بعدها بكل تأكيد، فهذا التقرير لم يعلن أي ادعاء أو محاكمة، لكنه أشار إلى عدم التعويل على أهلية الجهاز القضائي اللبناني في فضّ ذلك، وعزز ذلك بأن معظم الشهود المستجوبين والذين بلغ عددهم 243 شاهداً قد تحفظوا على وضع معلوماتهم بين أيدي الأجهزة اللبنانية، مع أن معظمهم هم الآن من" أهل الحل والعقد" في السلطة اللبنانية، التي تعاني من مفارقة" لبنانية" بين حكم" تيار المستقبل" للمجلس النيابي وبين عدم قدرته على" حكم لبنان".
ميليس في التصريحات التي نسبت إليه في بعض المقابلات، والتي اضطر الناطق باسم الأمم المتحدة إلى نفيها أو تصحيحها- وهي بالفعل احتوت في الظاهر على أخطاء شنيعة " متعمدة" على أرجح التقدير، لكن كان لها على ما يبدو وظيفة" تحقيقية" معينة يعرفها الضالعون في تعقيدات" لعبة الأمم"- أشار إلى التعاون مع إسرائيل والأردن، مع أن موقع كل منهما مختلف في القضية، فالأردن طرف يقول ما هو لديه لكن إسرائيل تقول ما تريده وليس مجرد ما هو لديها. بينما أشار إلى الشكوى من سلبية التعامل" السوري"، وهو الطرف المتهم إعلامياً وسياسياً بالوقوف خلف عملية الاغتيال، مع أنه لا أحد من الأوروبيين أو الأمريكيين قد تجاسر رسمياً على نقل الاتهام الإعلامي إلى اتهام رسمي، ومن هنا فإن الاتهام السياسي يصوب الاتهام إلى دمشق.
مفاد الكلام هنا أن شكوى ميليس من سلبية" التعاون السوري"، على الرغم من وجود تفسير معين لدى دمشق" على قد الحالة" و" التقدير" السوري لذلك صائباً كان أم اعتباطياً، هي شكوى تنطوي على مؤشرات تصويب سهم الاتهام اللاحق المحتمل في ظل القول بالإمساك بـ" طرف الخيط"، وعدم الحاجة إلى طلب" تمديد"، بينما تنطوي على تقديرٍ" إيجابي" للتعاون الإسرائيلي المعني والأردني الحيادي على الأقل. وشكوى ميليس هنا شكوى المحقق الدولي الذي يهتم بالدول في معرض اختصاصه وليس بخلافاتها وصراعاتها فيما بينها. فميليس ليس معنياً في حدود اختصاصه بـ" كيمياء" التناقضات ما بين هذه الدول، لكنه مقابل ذلك يبرز على نحوٍ ما اعتناءً فعلياً بكيمياء التناقضات اللبنانية، ومن هنا تبنيه لمشكلة أهلية الجهاز القضائي اللبناني، وما نسب إليه من أن على لبنان أن يتوقع حقائق" مؤلمة". وخلاصة ذلك إذا ما جردناها من البلاغة هي التمهيد للمحاكمة الدولية.
لم يتأخر تقدير ميليس للكيمياء اللبنانية، إذ استبق رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة الأمر، وهو بات اليوم يمثل معسكر الاعتدال في خيمة آل الحريري، الذي يستمد قوته من موقفه وليس من " أتباع" له، ورحب بفكرة نقل الملف من القضاء اللبناني إلى المحاكمة الدولية، ليس بالضرورة بهدف التدويل لما هو مدول فعلاً من قبل دول الوصاية أو الرعاية بالتعبير" المهذب" البعض، ولكن بهدف تجنيب لبنان بأكبر قدرٍ ممكنٍ عقابيل الإعلان" المؤلم" حسبما نقل عن ميليس، وعن مؤشرات تقريره. السنيورة في ذلك يؤكد بشكلٍ غير مباشر عدم اتساق المنظومة اللبنانية الحاكمة وترشيحها لمزيدٍ من محطات حرب المواقع الباردة، بقدر ما يسهم بنزع الأهلية عن القضاء اللبناني، ولكن الهدف هو محاولة تجنب التداعيات، فماذا لو كان في حقائق ميليس" المؤلمة" تصويب اتهام لحزب الله في تمرير الجريمة أو الضلوع فيها أو التواطؤ معها، وهو بالون اختبر ميليس نفسه تداعياته.
لا يجب أن يكون هناك شك بميليس فهو مغطى دولياً،ويقال إنه رجل له مصداقية، لكن كل العالم يتذكر بعثات التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وصولاً اليوم إلى الحقيقة العارية، لكن بعد فوات الأوان كالعادة، المخططة مسبقاً. ميليس في تصريحاته التي تمت بطريقة النقل عنه كما هو الواجب عمل هنا بطريقة ضبا ط المخابرات الكبار أو المحققين بسيكولوجيا لاختبار ما يسمى في الأدبيات المخابراتية العالمية بـ" الرمية" أو" الزتة" أو" الحجر في النبع: ثم" الجمع".
ومن حق ميليس أن يصل إلى معلوماته بطرقه التي هي قانونية أولاً وأخيراً. ويستطيع الادعاء بأنه ليس مسؤولاً عن استخدام جهاتٍ دوليةٍ لتقريره من أجل مصالحها، كما أنه ليس مسؤولاً عن طريقة تفسيرها لما ورد في تقريره. لكن التقرير يوفر كل مقدمات ذلك، ويوفر فضلاً عن ذلك في حال توقع صيغته النهائية تأليباً جديداً للصراع اللبناني- اللبناني لن تكون فيه حكومة السنيورة قادرةً على الاستمرار، وهو ما قد يعني أن المتشددين في خيمة آل الحريري قد استعادوا زمام الدفة. هذا سيناريو يمتلك شروطاً ابتدائيةً حاضرةً بقوة، وإن كان بعض المتشددين الكبار في الخيمة الحريرية يستبعدون علاقة سورية بمتفجرات جريمة الحريري.
لكن السؤال في كل المعمعة هو السؤال عن موقف دمشق المصوب الاتهام إليها؟ هناك اليوم كثرة كاثرة من التحليلات والتخمينات عن موقف دمشق التي تكمن مصلحة استراتيجية لها كما تقول دوماً في كشف ما تم، لكن قد يكون بينها شيء آخر ولو في سيناريو محتمل على نحوٍ ما، وهو قلب طرف الخيط الذي توصل إليه ميليس، وأوحى باتجاهاته. حينئذ قد لا يكون أمام ميليس سوى طلب التمديد أو ربما الاعتذار. وإذا ما صدق هذا الاحتمال- وهو نسبي بالضرورة- فهل ستقلب دمشق طاولة ميليس ومن وراءه؟ هذا يتوقف على ما لدى دمشق وهو كبير افتراضياً.
و إذا ما كان مقرراً للعبة التحقيق أن تتم على طريقة" جدول الأعمال الاعتيادي"، فالهفوات التي التقطها ميليس ليست أكثر مفاجأة من زيارة كونداليزا رايس لرئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود التي توقفت بعدها حكاية تنحيته، حيث البيادق اللبنانية تعمل في الداخل في ضوء إشارات الخارج، بما تعنيه تلك الزيارة من إعفاء لبنان من مسؤولية الحريري على نحوٍ ما تأويلاً وتفسيراً. والسؤال لماذا لا يطلب ميليس وثائق الولايات المتحدة الأمريكية عن ذلك، بينما اقتصر في تقريره على ما جاءه من إسرائيل والأردن؟ مع أن الولايات المتحدة قد تكون هي الأكثر وثوقاً في العالم بمن قتل الحريري الذي مثل الوظيفة المعقدة الثمينة في المنطقة والتي قد يكون تم التضحية بها من أجل أهدافٍ أثمن بمنطق لعبة الأمم. خلاصة ذلك: سيد ميليس سؤال من فضلك: من أي صنف أنت؟
إننا نحن المتمسكين بكرامة وفعالية منظمة الأمم المتحدة باعتبارها منظمة عالمٍ تسلطنت وتسلطت عليه بعض القوى القادرة محتاجون إلى ميليس حقيقي لا يكرر الفجيعة بالمفتشين الدوليين في أكذوبة أسلحة الدمار الشامل. التاريخ يمكن أن يكون محكمة كبرى قادمة للمفتشين الدوليين ولميليس لكن بعد أن تكون البشرية كلها قد دفعت ثمن ذلك. إن ذلك من منابع " الإرهاب" الذي كانه قبل ميليس مثل اللورد بلفور ومفتشي أسلحة الدمار الشامل. إن التاريخ الأوروبي محزن ومؤسف على الأقل فلم يعد الشهداء والمعلمون الكبار لعصره التنويري فالحداثي هم رواد العالم بل ضباط " لعبة الأمم" الذين سيثبت ميليس إن ما كان منهم أم من سلالة الحقيقة المدوية. ولقد كانت الحقيقة في كل التاريخ مدوية ومعلمةً وصانعةً للتاريخ بالفعل.