- إذا كان الدستور يلخص مجموعة القيم والمبادئ والقوانين الاساسية التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة وعلاقات سلطات الدولة مع بعضها بعضاً وتحدد بذلك طبيعة نظام الحكم القائم أيضاً، فهذا يعني أن الدستور غير المكتوب يسبق الدستور المكتوب. قد لا يحسن الناس نص ما يؤمنون به، لكنهم بالتأكيد لا يؤمنون به فجأة مع كتابة الدستور او بعد قراءته.
- يكتب الناس دستوراً هم مقتنعون به. إنه يلخص قناعاتهم بما يفضل ان يكون عليه تنظيم الحكم والدولة بناء على تجربتهم التاريخية بهذا الشأن، إنه عبارة عن «نحن نؤمن» في سياق المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم... لكي لا تكون القناعة بها مجرد لحظة عابرة بل دستورية لا تتحكم بها الاهواء ولا الاكثريات المفارقة. بل لتتحكم هي بعملية التشريع وليس العكس.
- اللحظة الدستورية هي ايضاً لحظة ترفّع عن الخلاف الحزبي كصراع نفوذ بمعناه الضيق. لا يكتب الفقهاء دستوراً ثم يقنعون الشعب به، بل يشرحونه للناس.
- ليست كل الدساتير ديموقراطية، ولكن الدستور الديموقراطي فقط هو الذي يستحق تسمية دستور. وذلك لسبب بسيط أن ضمانات تنفيذه وضمان اخضاع عملية التشريع له متضمنة فيه. وهذا لا يعني أنها مكتوبة فيه، بل يضمنها الاجماع على احترام الدستور، يضمنها تبني قيم الديموقراطية ذاتها. هذا هو الفرق العملي بين تبني قيم الديموقراطية كدستور غير مكتوب، وبين الضمانات الناجمة عن ارادة الحاكم او الحزب او السلالة العائلية او عن احتكارٍ ما في تفسير ارادة الله.
- ليس الاجماع غالبية بسيطة، ولا هو حتى الغالبية غير العادية التي تشترط الدساتير توفرها من أجل تغييير بند من بنودها. ولا هو شخصية اعتبارية ناجمة عن تقاطع ارادات الافراد كما تخيله الفلاسفة لخلق نموذج يشرح العقد الاجتماعي المتخيل. الاجماع الذي يقوم عليه الدستور هو قناعة الناس واجماع القوى السياسية كافة ذات التأثير والقوة والنفوذ وإجماع مراكز النفوذ كافة مثل العسكر والنخب الاقتصادية والسياسية والثقافية على احترامه، وتسليمها بأنها تستطيع متابعة تنفيذ وظائفها والحفاظ على مصالحها من خلاله في إطار الدولة، وقناعتها العميقة بأن العبث به يعني اختلال التوازن الذي يعود بالضرر عليها جميعاً.
- ليست اللحظة الدستورية هي لحظة الاستقلال أو لحظة الانقلاب او التغيير السياسي ولا هي بالضرورة لحظة توفر الغالبية لصالحه. اللحظة الدستورية هي لحظة التوازن المطلوب لترجمة القيم السياسية والحقوقية التي يفترض الجميع ان من الافضل ان تسود وان تنص كتابة. والكتابة هنا فعل جوهري اذا يرضى الاجماع ان تُكره المؤسسات على تبني قيم يتم نصها بشكل عام والزامي حتى لو لم تبدُ كذلك لكل شخص وحتى لكل اكثرية من الناس في كل لحظة معطاة في المستقبل. حلّت هذه اللحظة في الولايات المتحدة بعد مرور عشر سنوات على استقلال المستعمرات في اميركا الشمالية عن بريطانيا العظمى. وبعد ذلك بأقل من قرن اختل الاجماع الوطني على القضايا التي اتفق في حينه على تأجيلها. ولم يكن بالامكان تحقيق اجماع على القيم الجديدة التي تبناها الشمال حول القضايا الخلافية مثل العبودية، عند ذلك وجب تشكيل اللحظة الدستورية بالحرب الاهلية الاميركية وليس بالانتخابات. لحظة التغيير في الدستور هي ايضاً لحظة دستورية.
- تعلمنا من الاطروحة أعلاه ايضاً أنه ليست للأقاليم في النظام الفيديرالي الاميركي حرية انفصال عن الولايات المتحدة، وعندما انفصل بعضها لعدم قبوله مبادئ اساسية مثل تحريم العبودية قمع بالحرب الاهلية. لم يستخدم حينذاك بمبدأ حق تقرير المصير ولا غيره لتبرير الانفصال. ولكن هذا ما لا يمكن تخيله حالياص. ولا اقصد انه لا يمكن تخيل الحرب الاهلية بل لا يمكن تخيل الانفصال في الولايات المتحدة.
- «نحن» في عبارة «نحن نؤمن» هي مجموع المواطنين الذين يشكلون امة مدنية، أو دستورية، هي أمة الدستور. تطور هذه الامة الجديدة وطنية دستورية تحمي الدستور. (بغض النظر عما قصده هبرماس باستخدام التعبير بالالمانية) ولذلك فإن عملية تشكل الدستور غير المكتوب هي أيضاً عملية تشكل الامة الدولة. ولا تقوم دولة ديموقراطية من دون أن تكون المواطنة والانتماء لهذه الامة المدنية وجهان لنفس العملة. في هذه الحالة تصبح الامة في مقابل الدولة مجتمعاً مدنياً.
- إذا لم تفهم الامة ذاتها كمتشكلة فقط من مجموع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، اي اذا رأت أنها تتشكل من جماعات: طائفة او طوائف، أو من قومية أو قوميات، وقبائل وغيرها أيضاً، فسوف يتوجب على الدستور أن يقرر: يمكن جعل أمر الانتماء لهذه الجماعة او الجماعات مسألة هوية فردية يبتّها الفرد في مجاله او حيزه الخاص كما في حالة القرار الديني كخيار خاص أخلاقي لدى الفرد في نظام علماني. ويمكن تخيل تحول الثقافة والانتماءات الاثنية الى مسألة خاصة لدى الفرد تحترمها الدولة وتحترم الفرائض والواجبات المترتبة عليها. وذلك من دون ان يكون لها وضع دستوري يتجاوز حرية الافراد في تشكيل جماعات والتضامن معها. في مثل هذه الحالة لا يتحول الانتماء هنا الى مركب من مركبات الامة يحتاج الى اعتراف دستوري. أما إذا اعتبر هذا الانتماء او اعتبرت هذه الجماعة مكونة للامة، اي اذا اعتبرت الامة مركبة ليس فقط من مواطنين أفراد بل من جماعة او جماعات عضوية يولد الانسان اليها من نوع الجماعة القومية او اللغوية او الثقافية او الطائفية فسوف يضطر الدستور للاقرار بشكل التعبيير الحقوقي عنها في نظام الحكم، خصوصاً في حالة تعددها: اتحاد أو فيديرالية بين جماعات، أو تعددية ثقافية معترف بها ومنظمة دستورياً.
- لا يصح كل هذا اذا لم يتوفر قبله اجماع على وحدة الامة في دولة ذات سيادة. وقد تتحول اللحظة الدستورية بخبث شديد الى لحظة الحرب الاهلية، لانه في اللحظة الدستورية يتطابق الدستور مع وحدة السيادة والامة. قد يقوم الدستور على اساس أغلبية المواطنين الساحقة، لكنه في هذه الحالة يفترض الاجماع بأثر رجعي. أما اذا كان يقوم على اعتبار الامة مؤلفة من جماعات فإنه لا يمكن ان يقوم على موافقة أغلبية الجماعات بل يقوم على اجماعها. اي جماعة لا تقبل بالدستور كجماعة تتحول الى خاضعة غير راضية، اي الى طاقة انفصالية كامنة باستمرار. لم تشكل الولايات المتحدة الجنوبية جماعة معترف بها من هذا النوع، فقد كانت عبارة عن وحدات ادارية في حكم لا مركزي. ومن هنا يصح ليس فقط التريث وتأجيل اللحظة الدستورية لكي لا تتحول الى لحظة تفجير، بل يصح قبل ذلك الحذر عند الاعتراف بانقسام الامة الى جماعات تشكل اكثر من وحدات إدارية في حكم لا-مركزي.
- يجب التمييز بين وجود جماعات تاريخية اثنية، قومية الطابع تتألف منها الامة او الدولة، وبين وجود زعامات طائفية لا سبيل لها لتكريس زعامتها دون تقسيم الامة الى طوائف. في حالة الاعتراف بتألف الامة المدنية بالمفهوم أعلاه من قوميات تعبر الاتحادية او الفيديرالية عن عدم تطابق الامة مع القومية وعن الاعتراف بالقومية ليس فقط كوحدة ثقافية تستند الى اللغة مثلاً بل كوحدة سياسية تتمتع بحق الادارة الذاتية في اطار المواطنة المشتركة.
- لا يقوم كل اتحاد فيديرالي على الفرق المتفق على وجوده واعترف به بين مجموعات تتركب منها الامة. فقد يكون الاتحاد الفيديرالي ادارياً فقط، اسلوب لا-مركزي في ادارة البلاد حتى لو كانت له جذور تاريخية حديثة كما في الولايات المتحدة (خذ حالة تكساس مثلاً) او قديمة كما في المانيا. ولكن في الحالتين لا يعكس التركيب وجود مجموعات مختلفة. اما في حالة تجسيد الفيديرالية لانتماءات قومية او اثنية فإن الوحدة بينها تصبح أكثر هشاشة كما في بلجيكا وكندا.
- اذا ما اقرّ الدستور اقاليم او وحدات ادارية فإنه لا يحول الانقسام الى اقاليم او التوحد بينها الى مسألة اختيارها هي، فتختار اقاليم معينة ان تتوحد بناء على انتمائها الطائفي مثلاً. ولكن هذا بالضبط ما يتيحه الدستور العراقي المقترح مجزءً مسألة السيادة. (انظر المادة الرابعة من فصل مؤسسات حكومات الاقاليم).
- واتحاد أو فيديرالية الجماعات مقبول في حالات القومية او الاثنية او اللغوية ولكنها غير واضحة في حالات مثل الطوائف والعشائر فهذه جماعات ما قبل حداثية لا تقسم الامة فقط بل تقسم القومية. والاعتراف بالطوائف كجماعات اتحادية تتجاوز الانتماء الفردي اليها وما يترتب عنه من حقوق جماعية من نوع الاعتراف بالمؤسسات والطقوس الدينية والاوقاف والزواج والطلاق وغيرها الى الاعتراف بها كوحدات سياسية داخل الامة. وقد تكون الزعامات الطائفية تعبيرات عن طوائف وعشائر وسلالات تقليدية داخل نفس الديانة كما هي حالة الكاثوليكية والبروتستنانية والشيعية والسنية او فوارق دينية في اطار نفس الجماعة القومية. وحتى لو تمثل وتغذى التمايز بينها بذاكرة صراعات تاريخية اتخذت شكل حروب أهلية قديمة، كما هو الحال في غالبية حالات تشكل الطوائف داخل نفس الدين، فهي لا تبرر برأينا منحها بعداً سياسياً، أي منحها طابعاً قومياً، ولو كان ذلك في اطار نفس المواطنة او الامة. ليست التعددية هنا مجرد تعددية طائفية معترف بها في النظام الديموقراطي، بل تتجاوز ذلك الى طائفية سياسية تقوض الديموقراطية وتقوض الحور العقلاني. وتحمل فيها المواقف طابعاً مطلقاً مقدساً تغذيه بالاضافة الى المؤسسة السياسية المؤسسات الدينية ايضاً. وفي حالات عديدة تنتمي الطوائف الى القومية ذاتها والتاريخ ذاته وتتغنى بماض غير طائفي من جهة وماض دموي من الصراعات من جهة اخرى.
- حتى لو صح الاعتراف بالتقسيم الطائفي الاتحادي في أي مكان تتعدد فيه الطوائف فهو لا يصح في حالتي الشيعة والسنة في العراق، ليس فقط لأن الحديث هو هو عن قومية عربية واحدة بل لأنه في كثير من الحالات داخل العشيرة الواحدة التي تشيع بعضها في مناطق معينة او العكس. وصحيح انه بالامكان استدعاء تاريخ من الصراع الدموي الا انه يمكن ايضاً استدعاء تاريخ من العيش المشترك في نفس النسيج المجتمعي العربي العراقي. التاريخ والذاكرة في هذه الحالة هي شؤون انتقائية تخدم مطامع نخب وقوى سياسية محددة، بما فيها قوى دولية وإقليمية. وهذا أمر خطير.
- كما يبدو بدأ استخدام مصطلح «العرب السنة» لكي يتم تمييزهم عن السنة غير العرب... ولكنها تشرنقت لتسقط معنى وكأن السنة وحدهم هم العرب. وبدأ استخدام مصطلح «المسلمين الشيعة» بشكل عفوي لكي يتم تمييزهم عن بقية المسلمين في العراق من عرب وغير عرب، ولكن هذا المصطلح تصنم واصبح تغييب الصفة يفسر بحيث يعكس مزاج الكاتب أو الصحفي. في العراق قوميتان رئيسيتان: عرب واكراد. هذه قوميات ذات حقوق سياسية وثقافية تتجاوز مسألة التجمعات السكنية الادارية. ولكن لا يجوز القول ان العراق يشمل أكراداً من جهة وسنة وشيعة من جهة أخرى بحيث يبقى في العراق قومية واحدة هي الكردية. وهي الوحيدة التي طرح سؤال موضوعي حول وجودها في مرحلة تشكل القوميات واندماج الاثنيات في قومية المدينة العربية في المرحلة الليبرالية. وقد انهى تحول الهوية الكردية الى راية بيد المعارضة، ثم انغلاق القومية العربية في مرحلة تحولها الى ايديولوجية أنظمة هذا التساؤل، ولكن لا يجوز مقابل ذلك الغاء قومية الغالبية العربية لصالح الطائفية السياسية داخل المجتمع العربي.
- بعد ان غذّى الاميركان مسألة نزع عروبة العراق وغيره من الدول العربية اصبح من الصعب عليهم السيطرة على مطامع القيادات الطائفية والاقليمية للاستئثار بثروة العراق وتحويل مسألة السيادة التي لا تتجزأ على الارض بما فيها الثروة كثروة الوطن الى مسألة اتحادية. ولكن السيادة ليست مسألة اتحادية قابلة للتجزئة. لا يتخيل احد في ايامنا انفصال كليفورنيا لأنها الاكثر غنى ولا انفصال تكساس لانها الاكثر نفطاً. ولم يعد بامكان الأميركان أنفسهم السيطرة على النزعة الطائفية التي غذّوها ضد الهوية العربية. ولم تنفع حتى اتصالاتهم لجعلها تراعي مصالحهم الاقليمية. ولم يجد الحاح السفير خليل زادة للتجاوب مع بعض مطالب الممثلين السنّة آذاناً صاغية. ولم تجدِ حتى اتصالات بوش الهاتفية نفعاً. (انظر وصف ستيفن وايزمن في نيويورك تايمز 29 آب/ اغسطس). وبعد ان فشلت المساعي يتم اتهام الممثلين السنة في لجنة صياغة الدستور بأنهم لا يمثلون غالبية السنة (صح النوم!) ويتم اتهامهم بأنهم يتحدثون نتيجة الخوف... (انظر في واشنطن بوست ونيويرك تايمز يوم 29 آب تصريحات خليل زادة ومسعود البرزاني وجلال طالباني ونواح فيلدمان المحاضر في جامعة نيويورك الذي اشيع عنه غرورا على الاقل في اسرائيل، انه نص مسودة الدستور عندما كان مستشاراً قضائياً دستورياً في مرحلة بريمر). يتم الآن اتهامهم بعد أن كان هدف اقناعهم بالمشاركة استراتيجياً يصح التفاخر بتحقيقه رغم الضحايا والتكاليف.
- يقوم حلفاء اميركا الجدد الذين ارادتهم بديلاً للوضع القائم بتخييرها بين قبولهم كما هم، اي قبول «وضعهم القائم»، أو المخاطرة بكل شيء. وجد الاميركان انفسهم أمام «وضع قائم» جديد، ساهموا هم في اقامته لا يمتثل لهم تماما وحساباته ليست دائماً عقلانية او براغماتية بالمعنى الاميركي. اسم هذا الوضع القائم الجديد هو الطائفية، وهي قادرة على مفاجأة حتى الاميركان في كردستان ذاتها وفي جنوب العراق وفي علاقته مع ايران وغير ذلك. وضع قائم جديد يقوم على الطائفية التي لم يخترها غالبية سكان العراق بل فرضت عليهم كتابة في دستور. إن مجرد طرح هذا الدستور للاستفتاء من دون طرح بديل ديموقراطي نسبي يقوم على المواطنة وفصل الدين عن الدولة في بلد متعدد الطوائف والاعتراف بالقومية الكردية كقومية أقلية الى جانب القومية العربية، مجرد طرحه كخيار وحيد والاجابة عليه بنعم او لا هو فرض للخيار «الواقعي» الوحيد على الناس. والواقعية تُنتَج، إنها تصنع. والناس واقعيون، حتى غير الطائفي منهم غالبا ما يكون واقعياً اذا فرض عليه التقسيم الطائفي كأنه بنية الواقع القائمة، وكأنه لا سبيل للتكلم مع الواقع من دون اللغة التي تفهمها بنيته.
- الهوية القومية العربية والانتماء المشترك للمواطنة العراقية ليست مسائل يستفتى عليها. فإما ان تفترض كمعطى، او لا تفترض بالاجماع. ما افترضته لجنة الدستور فعلاً هو التركيب الطائفي والامة كحالة اتحادية بين طوائف. وهذا مبدأ اما ان يتم التخلي عنه فوراً ويرفع عن رقاب الناس، او يتم التوصل الى اجماع طائفي هش ومتوتر بشأنه على حساب غير الطائفيين كما في لبنان، أو يقود الى حرب أهلية. والاحتمالان الاخيران أقرب الى بعضهما مما يتصور الناس.