يتلخص الهم الأميركي الرئيس في منطقتنا اليوم بتحقيق انتصار ميداني ضدّ المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وأيضاً في أفغانستان، والانتصار المؤمل لا يطمع في اجتثاث هذه المقاومة من جذورها، بل في مجرّد الإخلال بالتوازن الحربي على الساحة العراقية، الذي شكّل انتصاراً هائلاً للمقاومة عبّر عن نفسه بتعطيل البرامج الأميركية الحقيقية سواء في العراق أم في المنطقة عموماً، فبفضل فعالية المقاومة العراقية توقف الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، مؤقتاً بالطبع، وتركّز الجهد على تهدئة الجبهة الفلسطينية وإشغالها بالانسحاب من غزة، وتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها بحجة عدم ضرورته وتناقضه مع السيادة، والاستماتة في تشكيل قوات عسكرية وأمنية عراقية قادرة على حمل أعباء مواجهة المقاومة نيابة عن القوات الأميركية، وإنه لمفهوم الترابط بين جبهات المقاومة العربية الثلاث، مضافاً إليها الجبهة الأفغانية، سواء من وجهة نظر المقاومة أم من وجهة نظر المحتلين الأميركيين والإسرائيليين.
المشروع وعقبة المقاومة الكأداء!
لقد وقع مشروع الشرق الأوسط الكبير في مأزق كبير، فهو عرضة لعصف الرياح إن لم يكن عرضة للانهيار، ولكي ندرك خطورة وأهمية ما استجّد على الساحة العربية، خاصة العراقية، تتوجب العودة إلى عام 2003، وإلى الخطاب الشهير للرئيس بوش، حيث شرح مشروعه داعياً إلى إدخال إصلاحات جذرية في أوضاع الدول العربية تشمل قطاع التعليم الذي يجب أن يخلو من كل ما يحرّض على المقاومة ويدعو إلى التمسك بالعروبة والإسلام والوحدة! وتشمل قطاع الاقتصاد الذي تتوجب خصخصته ودمجه في اقتصاد السوق الدولية! وتشمل المجتمع المدني الذي ينبغي أن يرتبط بالهيئات الدولية الفرانكفونية والأنكلوسكسونية وأن ينشغل بشؤونه اليومية الراهنة، من دون الالتفات إلى أية أهداف أخرى تتعلق بالتحرير والنهضة القومية والوحدة العربية! وتشمل إطلاق حرية المرأة على غرار المرأة التي نشاهدها في المسلسلات التلفزيونية الأميركية والمتأمركة! وتشمل تنظيم انتخابات برلمانية شكلية سطحية، بلا عمق ولا مضمون! وتشمل إطلاق حرية الرأي والصحافة.. الخ، حيث تقتصر مثل هذه الحرية على مجرّد الكلام والكلام! ولقد كان الأميركيون يتوقعون الانطلاق بالراحة في مشروعهم الكبير الذي سوف يفضي قطعاً إلى تفريغ الأمة والمنطقة من كل فعالية إنسانية تحررية، ويحوّلهما إلى شذرات وشظايا، وإلى فراغ يملؤه المرتزقة الصهاينة من اليهود وغير اليهود لخدمة المصالح الأميركية، غير أن العقبة العراقية الكأداء المفاجئة عطلت هذا التوجه بمجمله، وراحت الإدارة الأميركية تتململ موجهة اللوم إلى سورية، ومحملة مسؤولية تلكؤ برنامجها لمن وصفتهم بالأجانب الذين تسمح لهم سورية بعبور الحدود إلى ميادين القتال!
لغة منمّقة، لكنها مفضوحة!
بعد تجربة البلقان الناجحة، وبعد الاحتلال السهل لأفغانستان، كان الأميركيون يعتقدون أن الطرق جميعها أصبحت ممهدّة لإقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وما كان ليخطر في بالهم أن العراق، بعد إثني عشر عاماً من الحصار المحكم المدمّر، سوف يبدي أية مقاومة تستحق الذكر! وكانت صحيفة واشنطن بوست قد كشفت مبكراً، في افتتاحيتها بتاريخ 30 /12/2002، أن إدارة بوش (وهي تقترب من لحظة احتلال العراق) تبالغ في استخدام لغة منمقة عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، حيث القادة الأميركيون يتبارون في إلقاء الخطب بهذا الصدد، فتحدث كولن باول وزير الخارجية عن مبادرة أميركية لتطبيق الديمقراطية في البلاد العربية، وحملت تلك المبادرة عنوان:" مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية"، وجاءت مبادرة بوش تكراراً لها وإعلاناً عن بدء تنفيذها، رافضة التدرج في الإصلاحات ومنتقدة العقود الستة الماضية التي لم يتحقق خلالها أي تقدّم ملحوظ، وداعية إلى التنفيذ والتغيير بسرعة وفوراً، غير آبهة لتحذيرات واعتراضات الحلفاء الغربيين! لقد كانت الإدارة الأميركية مطمئنة تماماً إلى خلوّ طريق مشروعها من أية عقبة جدّية، إلى الحدّ الذي جعلها تقرّر الانفراد بعائدات المشروع الخرافية واستبعاد شركائها وحلفائها!
هاس يذيع الأهداف الحقيقية!
بالإضافة إلى الرئيس ووزير خارجيته، راح مدير المخابرات المركزية الأميركية جورج تينت يتحدث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير بثقة مطلقة! وأعلن مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية ريتشارد هاس أن الدور الأميركي يتلخص في تضييق الفجوة الديمقراطية بين الدول العربية وبقية دول العالم! لقد شرح ريتشارد هاس:" إن الإدارات الأميركية السابقة أخطأت عندما لم تعط نشر الديمقراطية في الدول العربية الأولوية القصوى، وهي البلاد التي تعتمد الولايات المتحدة عليها في ميدان النفط، والقواعد العسكرية، والتعاون مع الإسرائيليين في تحقيق عملية السلام"! وهكذا تتلخص قضية الديمقراطية، حسب كلام هاس، في السيطرة الأميركية على النفط العربي، وفي إقامة القواعد العسكرية الممولة عربياً على الأرض العربية لضبط العالم بمجمله، وفي التعاون مع الكيان الصهيوني كإدارة إقليمية أولى للشرق الأوسط الكبير!
العالم يتساءل، وبغداد تجيب!
لقد أبدى المعلقون الدوليون، في جميع أنحاء العالم، دهشتهم وشكوكهم في مرحلة التمهيد لاحتلال العراق، بينما هم يستمعون إلى خطابات أعضاء الإدارة الأميركية عن مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير، وراحوا يتساءلون: كيف يمكن إقناع "شعوب الشرق الأوسط" بجدّية واشنطن، عندما تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما العرب والمسلمون يرون شعباً بأكمله، هو الشعب الفلسطيني، محروماً من حرياته بل من أبسط حقوقه؟ وكيف يمكن لواشنطن إقناع أحد بجدّية مبادرتها وسياستها قائمة على المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين، فهي تطالب بمنح الحرية للإسلام السياسي في بلد، وتطالب بمحاربة الإسلام باعتباره إرهاباً في بلد آخر؟ أليست هي من يسمي هذا التيار إرهابياً في مكان، وتسميه إصلاحياً تحررياً في مكان آخر؟ أليست هي من احتضن الفصائل الأفغانية الإسلامية التي اعتبرتها، في ما بعد، من ألدّ أعدائها؟ وهل ستمارس واشنطن ضغوطاً متساوية على أصدقائها وأعدائها، وهي التي تتعامل مع دول المنطقة العربية بطريقتين: القفاز المخملي لبعضها والقبضة الحديدية لبعضها الآخر؟ وإذا انصاعت دول "الشرق الأوسط" للتهديد، وأطلقت العنان للديمقراطية، ثم أسفرت الانتخابات عن نجاح قوى سياسية معارضة للولايات المتحدة، فهل ستقبل واشنطن بما أنتجته الديمقراطية، أم ستطالب بديمقراطية ذات مواصفات خاصة تتفق مع مصالحها؟ ثم ما هي حقيقة الأهداف الأميركية، وهل يمكن تبديد الشكوك المحيطة بأهداف إدارة بوش العسكرية والنفطية الاستعمارية، وإلى أي مدى يمكن أن تذهب، وهل يملك الشعب الأميركي القدرة على الصمود طويلاً في حال التعثّر؟
لقد طرحت هذه التساؤلات مسبقاً، في جميع أنحاء العالم، سواء في أجهزة الإعلام أم في اجتماعات الحكومات والبرلمانات أم في المظاهرات العالمية الحاشدة، وكان على الجميع أن ينتظروا لبضعة أيام فقط، بعد البدء باحتلال العراق، كي يسمعوا الجواب والقول الفصل من بغداد!