أيضاً وأيضاً عن لبنان نكتب، ومن أجل لبنان ندعو ونطلب، وفي سبيل ضمان وحدته نواظب، وآخر المستجدات وما سيتبع نواكب.
وإذا كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري زلزالاً فإن ما حدث خلال الساعات والأيام القليلة الماضية هو بدوره زلزال ارتدادي برقم قياسي مرتفع على مقياس ريختر، وعلى إيقاع المحقق الألماني الدولي ديتليف ميليس. واستناداً إلى خبراءَ الزلازل والهزات، هناك النقطة المحورية لهذا الصاعق وتتوزع من حوله الإشعاعات الدائرية فتصيب من تصيب وتدمر ما تدمر وفق درجة تقارب أو تباعد موقع هذه الأهداف في المنطقة الجاذبة.
وفي كثير من الأحيان يكون الزلزال الارتدادي أكثر خطورة من الزلزال الأساسي. وإذا كان ما حدث يوم 14 شباط (فبراير) 2005 بقامة رفيق الحريري وحجمه، وكان هو المطلوب فإن ما حدث اليوم يوازي الحدث، وما نتابع عبر المشهد اللبناني عمل غير مسبوق في التاريخ المعاصر... ومن هنا كان القول ان لبنان بعد زلزال الرابع عشر من شباط لن يكون كما كان عليه قبل هذا التاريخ. وبعد انقضاء مئتي يوم على الاغتيال يحدث الانقلاب الكبير.
ولو شئنا التزام أكبر قدر من الموضوعية في نظرة تحليلية للأمور لوجب تأكيد المبدأ المعروف بأن المتهم بريء حتى تثبت أدانته. كما أن التعبير عن الاحترام للقضاء اللبناني منه والدولي يحتم التركيز على الأدلة وعلى القرائن الحسية والملموسة، لذا يجب مواكبة التحقيق مع الجنرالات الموقوفين توخياً للدقة من جهة واحتراماً للتحليل من جهة ثانية. ويمكن تسجيل ما شهدناه من تطورات مثيرة:
- أولاً: إن الجنرالات الأربعة الذين تم الادعاء عليهم وتوقيفهم لا يزالون حتى إشعار آخر تحت عنوان «المشتبه بهم». وقد يصعب على كثيرين التمييز بين الآراء العامة والنوازع الشخصية في مسألة مركبة وبالغة التعقيد كالتي نشهد، ومنهم من يقلب المعادلة منذ البداية ليقول: ان الموقوف متهم إلى أن تثبت براءته.
- ثانياً: يقول القاضي ميليس إنه أصبح الآن يعرف «الحقيقة» حول ملابسات اغتيال الرئيس الحريري، وهذه عملية اختراق مذهلة ضد ما كان يعتبر حتى الأمس القريب محظوراً ومستوراً.
واستناداً إلى بعض المواقف والبيانات اللبنانية يعتقد هؤلاء أن القاضي ميليس نفسه هو في دائرة المشتبه بهم كذلك! وعليه فهل يصبح المحقق الدولي في دائرة الاستهداف أيضاً؟
- ثالثاً: هذه الحقيقة التي بدأت تظهر معالمها ولو بصورة تدريجية هي كصورة مبعثرة الأقسام والزوايا، والمطلوب من القضاء هو تجميع الأقسام والشظايا والعمل على تثبيتها وإيضاح كل زاوية فيها، لأن تداعيات هذه الحقيقة لن تقتصر آثارها على لبنان فحسب بل ستكون عابرة للحدود. وفي كل حال، لا خوف من معرفة الحقيقة بل ربما يكون الخوف عليها.
- رابعاً: الآن، وبعد فتح الملفات والتوقيفات والاستجوابات والمحاكمات، طِرحَت مسألة التنافس بين صدقية القضاء اللبناني ومدى «التمايز» لدى القضاء الدولي. ولوحظ أن القاضي ميليس شدد أكثر من مرة على المهمات التي قام بها القضاة في لبنان والتي أسهمت كثيراً في مساعدة الفريق الدولي. والسؤال هنا: هل كان بإمكان القضاء اللبناني منفرداً أن يقوم بهذه الخطوة الكبيرة؟ واذا كان صحيحاً أن القضاء اللبناني ساهم إلى هذا الحد البعيد في عمل لجنة التحقيق الدولية ومهماتها، فلماذا سقطت نظرية «لبننة التحقيق» وانتصر مبدأ التدويل؟
سيقال ان العديد من علامات الاستفهام والتعجب أحاطت بدور القضاءَ اللبناني خصوصاً في السنوات الأخيرة. وهذا الأمر على درجة كبيرة من الصحة، لكن يجب عدم التعميم فنحن لا نزال نعتقد بوجود قضاء في لبنان وبوجود قضاة! وسيتجدد طرح هذه الإشكالية بعد ظهور المزيد من المعلومات عبر مسار التحقيق ومن استجوابات الموقوفين بخصوص المحاكمة الدولية للمتهمين. فهناك من يتخوف من خروج هذه المحاكمات عن مسارها، كأن يتم التوسع في التحقيق وفي المحاكمة ليشمل قضايا يستحسن عدم التعرض لها لأنها - في نظر البعض - تهدد «عروبة لبنان»!
- خامساً: جرى الكثير من اللغط حول «لائحة المستهدفين» اغتيالاً، بين من أكد وجود مثل هذه اللائحة ومن نفى وجودها، وبين من تلقى تحذيراً من السلطات اللبنانية بضرورة الحيطة والحذر، وأن المعلومات هذه مستقاة من ملفات لجنة التحقيق الدولية. لذا شهدنا موسم رحيل بعض السياسيين إلى باريس وغيرها. هذا يعني في جملة ما يعني أن الذي أبلغ المستهدفين بالاغتيال يعرف أو عليه أن يعرف المصدر الذي يقف وراء هذه اللائحة أو غيرها.
وعليه يجب ضبط المستهدٍفين (بكسر الدال) لإرغام المستهدَفين (بفتح الدال) على الهجرة والرحيل!
- سادساً: القرائن الأولية تشير إلى أننا لا نزال في بداية الطريق وأن التحقيق سيستمر، ولذلك لا يمكن الاستفاضة في التحليل بانتظار انقضاء الساعات القليلة المقبلة لحصول واحد من أمرين وكلاهما مثير: إما توقيف الجنرالات بعد استكمال استجوابهم، وإما إخلاء سبيلهم لأن الاشتباه يحتمل البراءَة أو الإدانة خصوصاً عندما يقول القاضي ميليس ان الموقوفين الأربعة هم على علم ببعض الخيوط المتصلة بالجريمة الكبرى. وفي مطلق الأحوال يجب التركيز على خطورة الموقف العام لبنانياً وإقليمياً لأن تداعيات ما يجري على الساحة اللبنانية سيكون لها الكثير من الامتدادات بعضها خاضع للسيطرة والبعض الآخر قد يفلت من عقاله.
- سابعاً: ان ما جري حتى كتابة هذه السطور هو البداية لمتغيرات نوعية سواء في الشأن الوطني الداخلي أو في الشأن الإقليمي أو العالمي. والآن أصبحنا ندرك شيئاً فشيئاً تسلسل الأمور. ومن أبرز هذه التطورات التشديد الفرنسي والأميركي على القرارات 1559 و1595 و1614 حرفياً، وبكل تأكيد حسب تعبير الرئيس جاك شيراك في لقائه بسفراء فرنسا في العالم.
ويجب أن نضيف إلى ذلك «اهتمامات» الرئيس جورج دبليو بوش، فقبل شهرين وعندما كان يشن حملة يومية للتأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها المحدد دون إبطاء استخدم تعبيراً غاية في الأهمية والخطورة من دون أن يتوقف عنده أحد عندما قال: «ان ما يشهده لبنان في هذه الأيام له تأثير واضح على عملية السلم العالمي». هل صحيح أن انعكاس ما جرى وسيجري في لبنان سيؤثر في المجتمع الدولي بكامله؟
- ثامناً: هنالك بعض الرد على النقطة السابقة وهي عبارة عن معلومات وليس من الخيال الخصب. إذ يقول أحد أعضاء مجلس الأمن القومي الأميركي «ان رهان الإدارة البوشية على العراق كي يكون منطلقاً لإقامة الديموقراطيات في المنطقة قد فشل، واستعيض عن هذا التصور بتصور آخر يقضي باعتماد لبنان المحور الذي ستنطلق منه تيارات الحرية والديموقراطية في أرجاء المنطقة.
ومن هنا لاحظنا مدى الحماس الأميركي لتظاهرات الرابع عشر من آذار (مارس) في قلب بيروت، وإصرار واشنطن على أن ينتشر «ربيع بيروت» ليصبح ربيع العرب والمنطقة.
إذن ان ما يشهده لبنان حتى على سطح أحداثه يتخطى قوته وقدراته وإمكاناته على رسم ملامح المرحلة المقبلة عليه وعلى دول المنطقة.
وإذا كان من الأمور الجيدة تأكيد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة على أن البلد لن يدمّر إلا على رؤوس المجرمين فهذه مسحة تفاؤل يحتاج إليها الوطن في كل يوم وليلة ليتابع مسيرة الحياة.
ولكن ماذا بإمكان الفريق الحاكم أن يتخذ من تدابير احترازية لمواجهة آثار المجهول الآتي؟
- تاسعاً : هنالك الصيغة اللبنانية وهنالك رئاسة الجهورية اللبنانية.
ان السجالات القائمة في لبنان في هذه الأيام لا تشير إلى وحدة موقف أو وحدة صف ولا تزال التركيبة اللبنانية هشة وسريعة العطب، وإن أي كلام غير هذا الكلام هو من قبيل الضحك على الذات ولطمر الرؤوس في الرمال. فهنالك أكثرية فازت في الانتخابات الأخيرة بالرقم المطلوب لإحداث تغييرات عبر التشريع في مجلس النواب على الأقل، لكن هذه الأكثرية لا تعتبر أنها مسيطرة على السلطة وعلى القرار. فكيف ستكون العلاقة بين هذه «الأكثرية العددية» ورئيس الجمهورية العماد اميل لحود بقطع النظر عن الحساسيات القائمة والخلافات المحتدمة والتراشق بالكلام والاتهامات من العيار الثقيل!
أما في ما يتعلق بموضوع رئاسة الجمهورية فلا بأس باستحضار العبارة الشهيرة والقائلة: المهم أولاً أن تبقى الجمهورية كي يتم الصراع على رئاسة هذه الجمهورية. ولعل في الإعادة إفادة من تذكر هذا القول. أما وضع الحكومة فالصحيح أنها «ليست في القصر إلا من العصر» ولا يمكن محاسبتها على إنجازاتها رغم أنها بدأت بذلك، لكن ما يخشى منه هو طغيان الشللية على العمل الوزاري والعودة إلى تأجيل جلسات مجلس الوزراء تفادياً للمواجهة.
- عاشراً: ما من أحد في لبنان إلا ويريد قيام دولة القانون والمؤسسات (باستثناء البعض). وما من أحد إلا ويريد معرفة الحقيقة، ليس فقط في جريمة اغتيال الرئيس الحريري بل بالكثير من القضايا الغامضة التي تحصل (باستثناء البعض).
لقد أطلقت على الحرب التي بدأت العام 1975 بأنها كانت حروب الآخرين على أرض لبنان. لكن ماذا نسمي الذي يحدث حالياً؟
هل تكون المعادلة الجديدة تختصرها هذه المقولة: انها حرب اللبنانيين من أجل الآخرين وبرعاية دولية؟ حتى لا نستعمل تعبير «الوصاية الدولية»!
ونبقى في السياق نفسه العام لنكبّر الدائرة قليلاً باعتبار أن الشأن اللبناني بات شديد الترابط مع إشكاليات أخرى في المنطقة.
قال مسؤول دفاعي أميركي إن أمام الرئيس السوري بشار الأسد فرصة ذهبية لم تتوفر لغيره لإنقاذ نظامه من الانهيار، بينما هو بذهابه الى طهران يبدي إصراراً على الطريق الخطأ لمعالجة مشاكله الداخلية، وذلك على حد قول هذا المسؤول الذي رفض ذكر اسمه. وقال المسؤول خلال جلسة خاصة بأحد المراكز الفكرية في واشنطن «إن الأسد يعتقد أنه يستقوي بإيران بتجديد تحالفه معها، في حين أن طهران ذاتها هي التي تعمل جاهدة على الاستقواء بسورية و «حزب الله» لخدمة مصالحها السياسية الخاصة بها».
وأوضح المسؤول الأميركي وجهة نظره بأن الرئيس السوري بما لديه من أجهزة استخباراتية قوية هو الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ الولايات المتحدة من ورطة مفترضة في العراق، وفي المقابل فإن واشنطن وليس طهران هي الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تدعم الأسد لتنفيذ إصلاحات داخلية لا تؤدي إلى انهيار نظام حكمه أو انفلات الأوراق من يديه.
وقال المسؤول إن مشكلة الأسد ومستشاريه في دمشق وخارج دمشق أنهم يحاولون قراءة ما لم تقله الولايات المتحدة، في حين أن الولايات المتحدة قالت كل شيء بكل بساطة ووضوح وليس لها أجندة غير معلنة مطلقا. وتابع قائلا: مطالبنا أعلناها للملأ وهي تتلخص في أربعة محاور...
المحور الأول: هو المتعلق بالعراق حيث أن استراتيجيتنا تحتم علينا سحق أعمال التمرد البعثية وأنصار الزرقاوي وبن لادن ونرحب بدعم سوري حقيقي في هذا المجال.
المحور الثاني: يتعلق بالمنظمات الفلسطينية الراديكالية التي يمكن أن تطرد خارج سورية، إلى «قطر مثلاً» أو أي دولة تقبلهم ليعيشوا كمواطنين وليس كمنظمات إرهابية.
المحور الثالث: تعلق بلبنان وقد طبقت دمشق جزءاً كبيراً ومهماً من المطالب في هذا المحور.
أما المحور الرابع: فيتعلق بالإصلاحات الداخلية نحو الديموقراطية.
ومنا لمن يعنيه الأمر.
وباختصار شديد اللهجة: الفيلم الدولي طويل طويل... والفيلم الأميركي – الدولي أطول بكثير.