حين أدركت الولايات المتحدة أن سورية، -ممثلة بحكومتها الوطنية بقيادة الرئيس السوري الأسبق المرحوم شكري القوتلي ومجلس النواب المنتخب- ترفض توقيع هدنة دائمة مع إسرائيل، حرضت "حسني الزعيم" قائد الجيش السوري على القيام بأول انقلاب عسكري في دولة عربية يوم 30 آذار "مارس" 1949، دام أربعة أشهر ونصف الشهر. توالت الانقلابات بعدها على سورية، حتى تنازل أديب الشيشيكلي عام 1954 عن الحكم وغادر سورية، حقنا للدماء. عاد بعدها الحكم المدني وتم انتخاب شكري القوتلي رئيسا للجمهورية للمرة الثانية في عهد الاستقلال.
لم يدم الحكم المدني طويلا في سورية. فنتيجة لوجود استقطاب حزبي ومناطقي داخل قيادات الجيش السوري قامت قيادات عسكرية لحسابات حزبية بالضغط على رئيس الجمهورية "شكري القوتلي"، فوافق على قيام حدة مع مصر في شباط 1958، دامت ثلاث سنوات ونصف السنة، وقع بعدها انقلاب عسكري أدى إلى الانفصال يوم 28 أيلول 1961، الذي فك عرى أول وحدة عربية في العصر الحديث، تم بعدها انتخاب مجلس نواب، بدوره انتخب الدكتور ناظم القدسي رئيسا للجمهورية.
وفي آذار 1963 وقع انقلاب جاء بحزب البعث إلى السلطة، وتم تشكيل أول حكومة بعثية برئاسة صلاح البيطار. توالت بعدها انقلابات البعثيين ضد بعضهم البعض، حيث أطيح برئيس الدولة الفريق "أمين الحافظ" وأنصاره من أعضاء القيادة القومية لحزب البعث، الذين أطلق عليهم "اليمين العفن"، واستلم السلطة رجل سورية القوي في ذلك الوقت اللواء "صلاح جديد". كما ظهر على الساحة أيضاء وزير الدفاع اللواء الطيار حافظ الأسد، الذي بدأت تدب بينه وبين رفيق دربه صلاح جديد، خلافات حول الاستئثار بالقرار في سورية، انتهت باستيلاء الأول على مقاليد الأمور بعد أن قام بانقلاب -سماه حركة تصحيحية- في 16 تشرين الأول عام 1970، وألقى بخصومه – الذين كانوا رفاق الأمس-في سجن المزة، ليبدأ في سورية عهد جديد تفرد فيه حافظ الأسد بالسلطة لفترة ثلاثة عقود، انتهت بوفاته يوم 10 حزيران 2000، بعد أن هيأ الجو ليخلفه من بعده ابنه بشار، في أول سابقة عربية من نوعها في العصر الحديث.
النظرية الأمنية التي اعتمدها حافظ أسد في حكم سورية
ولكن! لماذا بشار؟!
حتى يتسنى لنا أن نعرف الجواب عن هذا السؤال، ينبغي أن نعرف الأسلوب الذي كان يفكر فيه حافظ الأسد، وذلك باستقراء المنهج الذي اتخذه أسلوب حياة، وسار عليه حتى وصل به إلى الحكم، ومن ثم تابعه أثناء فترة حكمه حتى أفضى إلى الموت. وهذا المنهج كانت تحكمه دوائر ثلاث: الدائرة الأولى: وتضم ضمن محيطها حافظ الأسد فقط. الدائرة الثانية وتضم إليه أسرته (زوجته وأولاده). الدائرة الثالثة: وتضم الطائفة، وهذه الدائرة الأخيرة رتب الأسد عناصرها ، قربا وبعدا، بما يخدم الدائرتين، الأولى والثانية.
الدائرة الأولى:
آـ الزحف إلى السلطة: عاش حافظ الأسد فترة من شبابه العسكري، في مصر، بعد قيام دولة الوحدة، ورأى كيف كان عبد الناصر يبني مجده الشخصي، وامتلأت نفس حافظ الأسد بهذا البريق الأخاذ، فبدأ يتحسس الطريق الذي يمكن أن يوصله إليه. ولقد كان واضحا منذ البدايات الأولى لحكم حزب البعث في سورية بعد 8 آذار 1963، أن أربعة من أعضاء اللجنة العسكرية البعثية، ،- شكلها البعثيون من ضباط في الجيش أثناء حكم الوحدة مع مصر- وهم حافظ الأسد، صلاح جديد، محمد عمران (ثلاثتهم من طائفة واحدة) وعبد الكريم الجندي (إسماعيلي) تهيمن على القرار العسكري، وبالتالي القرار البعثي في سورية. وبناء على توصية من هذه اللجنة تمت –في عهد رئيس الدولة أمين الحافظ- ترقية حافظ الأسد من رتبة "المقدم" إلى رتبة "اللواء" وعهد إليه بقيادة القوات الجوية، مما كان له أكبر الأثر في نجاح انقلاب 23 شباط 1966 الذي أطاح بالقيادة القومية وعلى رأسها الفريق "أمين الحافظ"، حيث تبوأ حافظ الأسد على إثره منصب زير الدفاع.
ومنذ أن رُفّع حافظ الأسد إلى رتبة اللواء، بدأ مسيرته في التخلص من أعضاء اللجنة العسكرية البعثية الواحد تلو الآخر، فنحي محمد عمران –تم اغتياله فيما بعد في بيروت- مع مجموعة أمين الحافظ بانقلاب 23 شباط. وضُيق الخناق على عبد الكريم الجندي حتى انتحر (أو نحر) عام 1968. وعندما قام حافظ الأسد بحركته التصحيحية في 16 تشرين الثاني 1970، أدخل صلاح جديد إلى سجن "المزة" ولم يخرج منه إلا إلى قبره في عام 1993.
ب– الحكم المطلق: أحس حافظ الأسد أن حركته التصحيحية أخرجت حزب البعث عن معادلته الحزبية ( لم يؤيده فيها من القيادات الحزبية سوى عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وعبد الله الأحمر )، وبالرغم من أن هذه المعادلة لم تكن لتقلقه كثيرا ،بعد أن غيب معظم أعضاء القيادة القطرية البعثية في السجن، إلا أنه لم يهملها، ولكنه خفف من وتيرة إعادة تأهيلها، ملتفتا إلى "دائرة الطائفة"،(التي انقسمت هذه إلى شطرين، شطر يؤيده وشطر يؤيد صلاح جديد)، حيث أعطاها جل اهتمامه، محاولا أن يستوعب قياداتها المدنية والعسكرية، التي استنكرت ما قام به ضد صلاح جديد.
ثم بدأ ،بعد ذلك، بتأليف قلوب الكوادر البعثية المدنية ،خصوصا الشابة منها، التي كانت تؤيد صلاح جديد، فقدمها في صفوف حزب البعث، مثل عبد الله الأحمد، (غيبه الموت من فترة قصيرة) حيث أدخله إلى القيادة القطرية التي شكلت عقب الحركة التصحيحية، مما سهل عليه تدجين البعثيين من غير الطائفة، فأعاد تكوين كوادر الحزب من عناصر شابة طموحة للمنصب والمال.
وقد جعل جل اهتمامه منصبا على الجيش، لإدراكه أنه بيضة القبان في لعبة الحكم في سورية، مبتدئا بالصف الثاني من ضباط الطائفة، الذين هم أدنى منه رتبة، ( كان عمر حافظ الأسد أربعين عاما عندما استلم الحكم في سورية) فقدمهم وأغراهم بالمناصب، و جعل هيكلية الجيش تعتمد في قياداتها عليهم. فإضافة إلى حصر قيادة الفرق العسكرية الخمس – التي تم إعادة تشكيلها بعد حرب 1973م- في يد من كان يثق بهم من ضباط الطائفة، فقد جعل قيادة الوحدات الخاصة وأجهزة الأمن بيد ضباط منها مقربين منه،مثل الوحدات الخاصة التي أوكل قيادتها إلى "علي حيدر" ووضع "علي دوبا" على رأس المخابرات العسكرية،وكان لهذين الضابطين–إضافة إلى وجود أخيه "رفعت" على رأس سرايا الدفاع- دور كبير في سياسة القمع الدموي التي واجه بها معارضيه من الإسلاميين.
وزيادة في سياسة الحيطة،فقد وسّع حافظ الأسد ألوية "سرايا الدفاع"، -أنشأها "محمد عمران" إثر انقلاب 1963م- ووضعها تحت قيادة شقيقه الأصغر "رفعت"، وأطلق يده، وفتح أمامه خزينة الدولة، لينفق منها على "هذه السرايا" ،ويشتري الضمائر الرخيصة، وليوطد بها سيطرتهما على مقدرات البلاد. فعاث "رفعت" في الحرمات فسادا، وولغ في الدماء، وارتكب مجزرة "سجن تدمر"، (تحت سمع وبصر ورضى أمريكا التي تذكرتها أخيرا لتزيد في الضغط على قيادة الرئيس بشار الأسد، في حربها ضد ما أسمته الإرهاب) وذلك عندما أرسل مجموعة من جزاري "سرايا الدفاع" في ليل 26- 27 حزيران عام 1980م،حيث قامت بإيقاظ المعتقلين الإسلاميين، وفتحت عليهم النيران،وهم محصورون داخل جدران السجن، في مجزرة من أبشع الجرائم الإنسانية، فقتلوا أكثر من ألف شهيد.
ولا بد أن نذكر هنا أن "الجناح السني" (تشكل طائفة السنة أكثر من 70% من سكان سورية) قد غيّب عن القيادات الفاعلة في الجيش، كما في السلطة، تغييبا كاملا، ولم يكن العماد "مصطفى طلاس" إلا وزيرا بروتوكوليا لقص الأشرطة الحريرية ،ووضع إكليل الزهور على ضريح الجندي المجهول، واستقبال وزراء دفاع المنظومة الاشتراكية عند زيارتهم سورية. أما رئيس الأركان الأسبق العماد "حكمت الشهابي" فلم تكن له أية فاعلية تذكر.
الدائرة الثالثة - ثمن الولاء ومصير الأعوان:
شعر حافظ الأسد أن نظرات الأعوان كانت تخفي مالا تجرؤ على الإفصاح به، الجائزة التي كان كل واحد من أعوانه يطالب بها، ويشعر أنه الوحيد الذي يستحقها دون غيره ،بما قدم من خدمات، بأن يكون هو الخليفة من بعده. وأول الطامحين،كان أقربهم إليه ،شقيقه"رفعت". وقد خرج هذا الأمر إلى العلن ،في شهر ديسمبر 1983م، عندما أدخل حافظ الأسد إلى غرفة العناية المشددة، بسبب الغيبوبة التي أصابته،حيث دفع رفعت نفسه ،مدعوما بكبار قادة الفرق والأجهزة من ضباط الطائفة، إلى مركز القرار خلفا لأخيه، مستغلا فراغ السلطة أثناء الغيبوبة التي جعلت الرئيس في معزل عن الحكم، وانتشرت وحدات سرايا الدفاع حول الأماكن الحساسة في العاصمة السورية، وشعر الجميع أنّ وثوب رفعت إلى سدة الرئاسة أصبحت مسألة وقت.
مصير المؤامرة:
بعد أن أفاق الرئيس من غيبوبته، وأحيط علما بما فعله شقيقه ومن حوله، أدرك مدى الخطر المحدق به وبنظام حكمه، فسارع إلى تطويق التمرد، فاستدعى ضباط الطائفة ،الذين أيدوا "رفعت" في مسعاه ،فوبخهم وبين لهم مدى الخطر المحدق بهم وبنظام حكمه ،في حال نجح شقيقه في مؤامرته، فكان أن انقلب هؤلاء ضد "رفعت". وبعد أن ظهر إلى العلن هذا الخلاف، قام الرئيس بنفي شقيقه والضباط الذين أصبحوا يناصبون "رفعت" العداء، وعندما عاد الجميع إلى دمشق كان قد تم حل "سرايا الدفاع".
النظرية الأمنية للمشروع العائلي:
شكلت الأحداث السابقة، الأرضية الصلبة، للنظرية "الأمنية" التي بنى عليها الرئيس حافظ الأسد مشروعه في جعل الحكم حكرا عليه وعلى أولاده من بعده، لأن البديل –حسب قناعته- سيكون الدمار له ولأسرته من بعده.
لقد كان الأسد قارئا جيدا لتاريخ من سبقوه ومن عاصروه من الحكام، فقد رأى المصير الذي لحق ستالين ،بعد موته، في الاتحاد السوفييتي، ورأى ما فعل "السادات" ب"عبد الناصر"، وليس بعيدا عنه ما حل بصديقه "شاوشيسكو"، زعيم رومانيا ،الذي حوكم وحكم عليه وعلى زوجته بالإعدام، ونفذ فيهما الحكم.
أحسّ الرئيس الأسد أن المرحلة الثالثة، ربما تكون الأكثر ضراوة، لأن أحداثها سوف تمتد إلى ما بعد موته، حيث سيكون دهاؤه وحنكته، قد دفنا معه في قبره. وها هو يرى ما فعله أقرب الناس إليه شقيقه الأصغر "رفعت".
ولقد جعلته سياسته –التي تضررت منها قطاعات مهمة من الشعب السوري، وأكسبته عداوة جهات كثيرة ،داخل سورية وخارجها(الفلسطينيين واللبنانيين ودول الجوار العربي)- يشعر بالحجم الكبير للمشكلات التي تحيط به. وتبعا لذلك، فقد كان يعتقد اعتقادا راسخا أن مصيره إما في كرسي الرئاسة، أو كمصير أعدائه الذين أطاح بهم أثناء زحفه إلى كرسي الحكم. أما أسرته (زوجته وأولاده) فمكانهم إما في "قصر الشعب" على سفح جبل "قاسيون" المطل على مدينة دمشق من غربها، وإما في السجون أوالمنافي في أحسن الأحوال.
وبناء على هذه النظرية الأمنية، وفور الانتهاء من تطويق مؤامرة شقيقه، بدأ بإعداد "باسل"، ابنه الأكبر، ليكون الحاكم من بعده، من خلال "أجندة" متكاملة.لكن الموت كان أعجل من تلك الأجندة، حيث خطف الموت "باسل" في حياة أبيه عام 1994م، في حادث سيارة لم يكشف عن أسبابه حتىالآن، وقد تكون هذه الأسباب على علاقة وثيقة بمشروع خلافة الحكم. (نستعجل فنقول إن أي أجندة مهما كانت محكمة لن تستطيع أن تدفع تربص المتربصين. وإن أهم أمان للحاكم وأسرته، هو أن يفشي الأمان بين أفراد شعبه، ويشيع الحرية، وعندها سيكون الشعب كله من حول هذا الحاكم يدفع عنه مؤامرات المتآمرين.). بعد موت باسل، سارع"الأسد"باستدعاء ابنه بشار من بريطانيا –حيث كان يتابع تخصصه في جراحة العيون- وبدأ بإعداده إعدادا مكثفا، ليكون الخليفة من بعده.
وبالرغم من قناعة الأسد، بأن "بشار" قد يتعرض هو الآخر لكيد وتربص خصوم والده ،أو أتباعه المحيطين به، على السواء، فإن "الأسد" الأب كان يعتقد أن دفع الخطر الأكبر والمؤكد –في حال وصل شخص آخر ليس من آل الأسد إلى كرسي الرئاسة-مقدم على الخوف من الخطر المحتمل. (نستكمل البحث في الجزء الثاني تحت عنوان "أجندة الخلافة...").