تتعرض سورية هذه الأيام إلي حملة مسعورة من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش وسفيره في بغداد زلماي خليل زاد، تذكر بالحملة المماثلة التي تعرض لها العراق قبل الغزو والاحتلال الأمريكيين.
فالرئيس بوش هدد بزيادة عزلة سورية، بينما ذهب سفيره الي التلويح باستخدام القوة العسكرية ضدها لأنها لا تتعاون بالشكل المطلوب مع المطالب الأمريكية في منع المتسللين الراغبين في الانضمام إلي مقاومة الاحتلال.
وتتزامن هذه التهديدات مع زيارات يقوم بها القاضي الألماني ميليس رئيس لجنة التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، إلي دمشق مع تسريبات متعمدة حول تورط مسؤولين أمنيين سوريين في هذه الجريمة، ووجود خطة لاستجوابهم في الخارج، وأي معارضة تعني قراراً دولياً من مجلس الأمن بفرض عقوبات علي سورية، وحصار اقتصادي علي غرار ما حدث في قضية لوكربي.
المشروع الامريكي، بشقيه السياسي والعسكري، فشل تماما في العراق، وبات هذا الفشل واضحا للجميع، ولكن الادارة الامريكية لا تريد الاعتراف به، وتبحث عن كبش فداء لتحميله مسؤولية هذا الفشل، ولم تجد غير سورية لانها معزولة عربيا ودوليا، ومتآكلة داخليا.
الرئيس بوش وكل حلفائه في حكومة العراق الجديد يتهمون سورية بتسهيل مرور العرب الراغبين في الانضمام الي تنظيم القاعدة في العراق، وتنفيذ عمليات انتحارية، ووصل الامر بالسفير خليل زاد الي مطالبة سورية بمنع سعوديين ويمنيين وجزائريين من المرور عبر مطار دمشق الدولي، ولكنه لم يطالب دول هؤلاء المتطوعين بعمل اي شيء.
طول الحدود السورية مع العراق يصل الي 592 كيلومترا، يرابط عليها حسب البيانات السورية 5500 جندي سوري، يتوزعون علي 50 مخفرا حدوديا. والقت السلطات السورية القبض علي 1251 شخصا كانوا في طريقهم للتسلل عبر الحدود. فماذا تريد الادارة الامريكية اكثر من ذلك؟!
الامريكان وباختصار شديد يريدون ان ترسل سورية كل جيشها الي العراق ليكون في خدمة المشروع الاحتلالي الامريكي، وخوض حرب ضد المقاومة العراقية لا تنتهي الا بالقضاء عليها تماما.
فالمقاتلون العرب حسب الاحصاءات الرسمية الامريكية لا يشكلون الا خمسة في المئة من مجموع رجال المقاومة، بينما الغالبية الساحقة هم من ابناء العراق، وبالتحديد من الجنود ورجال الحرس الجمهوري الذين قذف بهم بول بريمر الحاكم الامريكي السابق في العراق الي مجاهل البطالة والموت جوعا استجابة لنصائح الدكتور احمد الجلبي وغيره.
الحدود العراقية ـ السورية من جانبين، احداها سوري والآخر عراقي، ويوجد لامريكا 150 الف جندي في العراق، وعلاوة علي مثل هذا العدد او اكثر من قوات الحرس الوطني والبشمركة وقوات بدر، فلماذا لا يتم حشد هذه القوات علي الحدود السورية ومنع التسلل اذا كانت مشكلة العراق فقط محصورة في المتسللين؟
مشكلة سورية انها رفضت التعاون مع المشروع الامريكي امنيا وعسكريا. فعندما تعاونت مع عاصفة الصحراء، واستصدرت قرارا مع مصر يشرع وجود نصف مليون جندي امريكي في الجزيرة العربية، كانت الدولة المستأنسة غير المارقة، ولهذا صمتت واشنطن صمت القبور علي وجود قواتها في لبنان، ولم ترسل اي لجان تحقيق في جرائم اغتيال حسن خالد ورينيه معوض او حتي بشير الجميل.
الموقف السوري الحالي في عدم الرضوخ للابتزاز الامريكي بكل انواعه، يعكس هوية سورية ودورها العربي الحقيقي، ويصحح خطيئة التعاون مع عاصفة الصحراء، التي اضرت بها وعصفت بالمنطقة واستقرارها، مثلما يرد بشكل قوي علي نكران الجميل الامريكي للدور السوري في محاربة الارهاب. وهو موقف نأمل ان يستمر، لانه ليس من مصلحة سورية، ولا الأمة العربية القاء عجلة الانقاذ للادارة الامريكية لاخراجها من مأزقها في العراق. فقد ارتكبت هذه الحماقة الدموية دون ان تستمع لأي رأي عربي، او حتي غربي صديق، وعليها ان تقلع شوكها بايديها ، مثلما يقول المثل الشعبي.
ولكن هذا الموقف السوري، الذي يحظي بتأييد الغالبية الساحقة من المواطنين العرب غير مسنود بسياسات داخلية اصلاحية، ودبلوماسية خارجية نشطة وفاعلة.
فبعد اربع سنوات من حكم الرئيس الشاب بشار الاسد تسير اوضاع البلاد الي الوراء، وتنتقل من سيئ الي اسوأ. فكل الوعود بالاصلاح والتغيير تبخرت، واستفحل الفساد وتحول الي اهم مؤسسة في البلاد. والاكثر من ذلك ان الذين نهبوا اموال البلاد هربوا بها الي دبي، واستثمروها في مشاريعها لخلق وظائف للهنود والفلبينيين، وكأن الشعب السوري لا يستحق الا الجوع والفقر والبطالة في نظر هؤلاء!
النظام السوري الحالي هلامي وبلا هوية محددة، فلا هو رأسمالي ولا اشتراكي، ولا تعددي، ولا ديمقراطي، ولا هو نظام السوق، ولا نظام موجه، فهو في فوضي عارمة، لا هو صيني او روسي او امريكي. الوصف الوحيد الذي يمكن ان يطلق عليه هو انه نظام امني ونقطة علي السطر.
اما الدبلوماسية السورية فشبه معدومة، ولا نعرف من هو الذي نصح الرئيس بشار الاسد بعدم الذهاب الي نيويورك واستغلال هذا الحدث العالمي الضخم لشرح وجهة نظر بلاده وفضح الضغوط الامريكية الممارسة ضدها، وكسب الانصار. روبرت موغابي كسر الحصار الامريكي ـ البريطاني وذهب الي الامم المتحدة، وخاطب قمتها، وكذلك فعل الرئيس الايراني احمدي نجاد.
سورية تعيش ازمة، والشعب السوري في حال من القلق، واعلام بلاده يتصرف وكأنه في دولة مثل سويسرا او السويد. والمسؤولون يلتزمون الصمت ويواصلون كنس الاوساخ تحت السجادة، وكأن الامر لا يعنيهم. لا بد من مصارحة الشعب وتعبئته، ولكن بالقضاء علي الفساد اولا وبدء عملية التغيير.
ما لا يعرفه الامريكيون ان ارتكاب اي حماقة في سورية ربما تؤدي الي زلزلة المنطقة بأسرها. فسورية اذا قررت هدم المعبد علي رأسها ورأس الآخرين، وهي قادرة، ستفتح نيران جهنم علي امريكا وحلفائها، ابتداء من اسرائيل، مرورا بلبنان، وانتهاء بالاردن ومصر. وعلينا ان نتخيل جبهة من الفوضي تمتد من الحدود العراقية ـ الايرانية الي البحر الابيض المتوسط.
كلمة اخيرة نوجهها الي المسؤولين العراقيين الذين يهاجمون سورية بشراسة ويحرضون امريكا ضدها، مفادها ان الدولة العربية الوحيدة التي اكرمت وفادتهم عندما كانوا منبوذين عربيا هي سورية، ومن ابرز هؤلاء السادة عبد العزيز الحكيم صانع ملوك العراق الجديد، ووزير داخليته بيان جبر، واخيرا الرئيس العراقي جلال الطالباني، الذي ظل حتي لحظة قريبة يتجول في العالم بجواز سفر دبلوماسي سوري.