السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية كانت صريحة الى درجة الوقاحة في رسالتها الى الرئيس الفلسطيني محمود عباس: ’عليكم العودة الى طاولة المفاوضات دون شروط تجميد الاستيطان، وفي اسرع وقت ممكن’. وذهبت الى ما هو ابعد من ذلك عندما اشادت بمقترحات نتنياهو حول توسيع المستوطنات، ووصفتها بانها ’غير مسبوقة’...
ماذا يعني هذا الكلام من وزيرة خارجية الولايات المتحدة؟ الاجابة بسيطة، وهي تراجع السيدة كلينتون، بشكل مخجل عن
جميع تصريحاتها السابقة، حول ضرورة تجميد الاستيطان كلياً، في الضفة الغربية والقدس المحتلة دون اي استثناءات، كشرط للعودة الى مائدة المفاوضات، وهو موقف تشبث به رئيس السلطة الفلسطينية وجعله محور سياساته.
نشرح اكثر ونقول ان السيدة كلينتون ’لم تلحس’ تصريحاتها ومواقفها السابقة فقط، بل تبنت مواقف بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته افيغدور ليبرمان بالكامل، باعتبارها المواقف ’المنطقية’. فالسيد عباس في رأيها، تفاوض لأكثر من سنة ونصف السنة مع حكومة اولمرت السابقة، والتوسع الاستيطاني مستمر دون توقف. وهذا صحيح للأسف.
نتنياهو يعيش الآن اسعد ايامه، ويتبادل انخاب النصر مع صقور حكومته اليمينية المتطرفة، فقد ارغم باراك اوباما وادارته على الانحناء امام تصلبه في مواقفه، والاعتراف بصحة نظرته، نادمين على اخطائهم، معتذرين عنها، طالبين الصفح والغفران.
الاكتئاب سيكون رفيق الرئيس الفلسطيني في الايام والاسابيع المقبلة، خاصة ان هذه ’الصفعة’ تأتي بعد ايام معدودة من استعادته بعض توازنه النفسي، بعد كارثة سحب تقرير غولدستون حول جرائم الحرب في غزة، من التصويت امام مجلس حقوق الانسان الدولي، وهي الكارثة التي اضطر الى اصلاحها مرغماً باعادة طرح التقرير على التصويت مرة ثانية في غضون ايام، ورفض ’النصائح’ الامريكية والاسرائيلية بعدم الاقدام على هذه الخطوة.
المعضلة التي يواجهها الرئيس عباس واضحة المعالم، لا لبس فيها ولا غموض، فالذهاب الى مائدة المفاوضات، وفق شروط نتنياهو المدعومة امريكياً، اي دون تجميد الاستيطان، سيعني نهاية سلطته وانفضاض الدعم القليل، والمتآكل لها في اوساط الرأي العام الفلسطيني، وقد لمس بنفسه نفوذ هذا الرأي العام وتأثيره اثناء اقدامه على سحب تقرير غولدستون. اما رفض الدعوة الامريكية هذه، وعدم العودة الى مائدة المفاوضات بالتالي، وهو ما عبر عنه بعض المتحدثين باسمه، فهذا يعني عزلة باردة في مقر المقاطعة في رام الله، ومواجهة ضغوط امريكية واسرائيلية متعاظمة، ابرز عناوينها وقف المساعدات المالية، مما يعني عدم دفع مرتبات موظفي السلطة، وانتهاء مفعول ’سلاح المال’، الذي يعتبر اقوى اسلحته لاستمرار تأييد ودعم المجموعة المحيطة به وما بعدها.
الرئيس عباس ارتكب اخطاء، بل خطايا عديدة، منذ ان بدأ في ’تصديق’ الوعود الامريكية، وبعض مبعوثي البيت الابيض وانصارهم الفلسطينيين خاصة، وطرح نفسه بديلاً للرئيس الراحل ياسر عرفات وهو ما زال حياً، واعتقد انه بمجاراته للإدارات الامريكية، و’اعتداله’ في مواقفه والرهان الابدي على المفاوضات، يمكن ان يصل الى الدولة الفلسطينية المستقلة التي بدأ التفاوض من اجلها سراً في اوسلو، وعلناً بعد مؤتمر انابوليس.
ولعل الخطأ الاكبر تصديقه لوهم ’السلام الاقتصادي’ الذي سوّقه له السيد سلام فياض رئيس وزرائه، تحت ذريعة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية الاقتصادية (البنى التحتية)، وتحسين الظروف المعيشية لمواطني الضفة.
المستر توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق، صديق فياض ونتنياهو معاً، هو صاحب مفهوم السلام الاقتصادي الذي طبقه في ايرلندا الشمالية، ويقوم على مفهوم واشغال الناس بالانتعاش الاقتصادي وتحقيق الأمن عن القضايا الوطنية والكفاح المسلح بالتالي.
ايرلندا كانت تعيش حرباً اهلية طائفية، في بلد ديمقراطي يتساوى جميع مواطنيه بحكم الدستور في الحقوق والواجبات، وفي ظل حكومة منتخبة في انتخابات نزيهة، ولهذا يمكن ان تكون فرصة نجاح ’السلام الاقتصادي’ فيها كبيرة، اذا توازى ذلك مع اعطاء كل طرف حقوقه السياسية دون اي نقصان.
الوضع في فلسطين مختلف جذرياً، فالاحتلال الاسرائيلي خانق، وهناك حقوق تاريخية ووطنية تمتد الى ما هو ابعد من حدود الضفة الغربية، الى يافا وحيفا والجليل والنقب والقدس بشقيها الغربي والشرقي، وهناك قضية اللاجئين وحقهم في العودة. اي ان مقارنة فلسطين بايرلندا الشمالية مقارنة في غير مكانها، علاوة على كونها معيبة وتفريطا بالثوابت.
السيد فياض يسيطر حاليا على اهم ملفين: المال والامن معا، بينما تحوّل السيد عباس الى مجرد واجهة للتصوير فقط مع الزوار الرسميين. فاللافت ان جميع المسؤولين الامريكان يلتقون السيد فياض على انفراد، ويجرون معه مناقشات معمقة حول جميع القضايا المهمة، الاقتصادية والامنية خاصة، بينما لقاؤهم مع عباس بروتوكولي محض، فلا يمر فلس واحد الا عبر قنوات فياض، ولا يتلقى اي ضابط في قوات الجنرال دايتون امرا الا من خلاله.
السيد فياض قال انه سيعلن الدولة المستقلة في غضون عامين. مضى حتى الآن ثلث المدة، ولا نعرف على اي اساس بنى توقعاته هذه، وكيف ستكون هذه الدولة وما هي حدودها وعاصمتها ومعالم سيادتها وعلاقتها مع محيطها. لم يجب علينا السيد فياض مطلقا على هذه التساؤلات ولا غيرها. وان كنا على قناعة بأنها لن تكون اكثر من حكم ذاتي هزيل ينمو في رحم الاحتلال، ويحسّن وجهه البشع.
هناك عدة اسئلة تطرح نفسها لا بد من التوقف عندها: الاول هو عن اسباب هذا الانقلاب الامريكي المفاجئ. اما السؤال الثاني فهو حول خيارات الرئيس عباس المقبلة حول كيفية الرد عليه او التعاطي مع تداعياته الحاضرة والمستقبلية؟
هذا الانقلاب الامريكي جاء لسببين رئيسيين: الاول هو عدم وجود اي ضغط او تحرك فلسطيني سياسي او جماهيري في رام الله، والضفة عموما، على الادارة الامريكية واسرائيل، مثل تنظيم اعتصامات او مظاهرات، او حتى اعمال عسكرية ضد الاحتلال ومستوطناته، انتفاضة مدنية، او غير مدنية، كرد على الاعتداءات على المسجد الاقصى واستمرار الاستيطان مثلا، اي جمود واستسلام كامل للاحتلال. اما السبب الثاني فهو اقتراب الحسم الامريكي الاسرائيلي فيما يتعلق بالملف النووي الايراني، سواء كان هذا الحسم سياسيا او عسكريا، ففي الحالتين تريد ادارة اوباما كسب الود الاسرائيلي وعدم الذهاب الى خيارات التعامل مع هذا الملف في ظل خلاف مع اسرائيل رأس الحربة، ومنصة انطلاق اي عدوان مستقبلي. فجميع حروب امريكا ضد العرب والمسلمين من اجلها.
ما هي خيارات الرئيس عباس؟ الخيارات محدودة للغاية، هناك خيار ينتظره الشعب الفلسطيني المحبط، وهو اعلان فشل الرهان على الادارة الامريكية والمفاوضات التي تدعو لها، والعودة الى المقاومة بأشكالها كافة، وتغيير اسلوب التعاطي مع حركاتها، وحركتي ’حماس’ و’الجهاد الاسلامي’ على وجه الخصوص، وتطبيق برنامج حركة ’فتح’ الذي صدر عن مؤتمرها العام الاخير، والفقرة المتعلقة بالكفاح المسلح على وجه الخصوص، ولو في مرحلة لاحقة.
لو كنت مكان الرئيس عباس، ولا اتمنى ولن اكون في مكانه، لقدمت استقالتي فورا، واعترفت بفشل مشروعي، ليس فقط في تحقيق الاستقلال الوطني، ولكن ايضا في المحافظة على وحدة الشعب والارض.
تجاربنا السابقة تؤكد ان الرئيس عباس يتجنب مثل هذا الاستحقاق لاسباب ومصالح عديدة يعرفها الجميع، فطالما انه لا يريد هذا الخيار، فليذهب الى حركة ’فتح’ لمصارحتها والبدء في تطبيق مقرراتها البديلة، وابرزها المقاومة المسلحة، والذهاب بعد ذلك الى دمشق للقاء قادة الفصائل الاخرى وتحقيق المصالحة الوطنية على هذا الاساس.
من المؤسف والمؤلم انه قد لا يفعل ذلك ايضا، وسينتظر ثغرة يعود عبرها الى المفاوضات مجددا، مع ’تخريجة’ تبرر هذه العودة والاستمرار في السلطة.
عن جريدة القدس العربي