بين الكتلة الحضارية المركزية في الغرب والكتلة المتعثرة كحالنا، عرباً أو مسلمين أو شرقيين أو شرق أوسطيين، فارق أخلاقي، يُضاف إلى فوارق سياسية واقتصادية وتقنية وعسكرية أسهل تحديداً. لا يتمثل الفارق هذا في أن الغربيين أكثر أخلاقية منّا، بل في أن نظمهم الأخلاقية أكثر اتساقاً وعقلانية وفاعلية. هذا ما سنحاول تسليط ضوء عليه في هذا المقال.
اتساق الأخلاق
للقيم الضابطة لسلوك الأفراد في الغرب أصولها في كل من الفكر الليبرالي الذي يبيح للفرد فعل كل ما لا يلحق ضرراً بالغير (جيمس ستيوارت ميل)، والمذهب النفعي الذي يجعل من تطلّب السعادة معرفة كلذة أو متعة وتجنب التنغيص أو الألم أساساً لأخلاقية مناهضة للزهد ومتصالحة مع العالم الدنيوي، تعكس اختراق العلمنة مجال الأخلاق. ويطالب كانط الفرد أن يسعى إلى جعل سلوكه قاعدة للإنسانية، وأن لا يرتضي للغير ما لا يرتضيه لنفسه. ويشكل هذا المطلب طبقة من طبقات الضمير الأخلاقي الغربي. وتخضع أخلاقيات العمل لمبدأ أساسي في المجالات جميعاً هو <<قانون القيمة>>، أي أن الناس يعيشون من عملهم، وأن العمل هو المقياس العقلاني للجهود والجدارات و.. قيم السلع. وتخرج الحياة الجنسية للبالغين غير المتزوّجين من دائرة الحكم الأخلاقي لتعتبر شأناً شخصياً لا يعني أحداً غير أصحابه. ولكل من الجامعات والبحث العلمي والإعلام والفن والحياة الأسرية <<أخلاقياتها>>، المتسقة على العموم. ويثير تطور العلوم (الاستنساخ مثلاً) مشكلات أخلاقية تثير نقاشاً عاصفاً في الغرب، محرّكه الرغبة في الاتساق والوضوح الأخلاقي. وتتكفّل مأسسة النقاش العلني والنقد السياسي في ضمان الاتساق أو الحدّ من الخرق الفاضح لضوابط هذه الأخلاقيات.
مهما يكن الرأي في هذه الأخلاقيات فإنها تحوز، على العموم، درجة عالية من الاتساق، أي أنها غير متهافتة ولا متعددة المعايير. ويمكننا القول إن حضارة الغرب حضارة قواعد وتنظيم فوق وقبل كونها حضارة إنتاج وإبداع.
وللدول أخلاقياتها المكرّسة عبر مبادئ مثل الدستور والديموقراطية والتعاقد والسيادة الشعبية، وشرعية الدولة، أي أخلاقيتها، لم تتأخر عن تبلور فكرة سيادة الدولة قبيل عصر التنوير بقليل. وكان ماكيافللي قد حرّر أميره من الأخلاق المسيحية. وهو ما قاد إلى بروز كائن جديد إلى مسرح التاريخ، سمّاه هوبس اللفياثان، وكان لا بدّ من تطوير أخلاقية له. يمكن فهم فكرة التعاقد ومبادئ حقوق الإنسان والمواطن والديموقراطية كأخلاقيات لهذا الكائن الجديد، اللفياثان أو الدولة السيدة.
وكما تهتدي أخلاق الفرد بمبدأ المنفعة فإن الدولة تهتدي بمبدأ المصلحة القومية. وللوظيفة العمومية مبدؤها: خدمة لا يُشكر مَن يؤديها على أكمل وجه، بينما يُلام ويُحاسب من يسيء أداءها.
أخلاقية الفرد الغربي ليست منيعة أمام الانعزال والأنانية؛ لأنها مبنية في الأصل على مذهب النفعية أو الأنانية المستنيرة التي تسوّغ فعل كل ما يعود عليها بالنفع شرط أن لا تؤذي الغير. لكنها متّسقة. آفة أخلاقيات الدول كذلك هي الأنانية، ومنبعها بدورها هو مبدأ المصلحة القومية. التحرّر من الأنانية يقتضي مبدأ آخر لسياسة الدول غير المصلحة القومية، وربما نظاماً عالمياً فوق قومي. والمعايير المزدوجة، ما نظنّه أصفى تعبير عن اللااتساق، وهم إيديولوجي يتبدد إن أرجعنا السياسة إلى المصلحة القومية.
تهافت الأخلاق
في بلادنا السياسي معيار الحقيقة. قد يكذب قليلا أو كثيرا، لكن نظامه بالذات كذبة. ليس لصاً بالضرورة، لكنه مالك الدولة ومعيار الأخلاق. ليس هناك قيم متسقة توجه سلوك الأفراد والفاعلين السياسيين والدول. فكرة المصلحة الوطنية غائبة أو ضعيفة في توجيه سلوك الدولة، وتحل محلّها دوماً مصلحة السلطة وبقاؤها. وفكرة المصلحة العامة غائبة في سلوك الأفراد ووعيهم. الحكام غير منتخبون. أداء الحكومات بين سيئ ومُخزٍ، مع ذلك تنسب لنفسها إنجازات وانتصارات وتلغي مبدأ المحاسبة. فكرة الحرية ضعيفة حيال الدولة وحيال الدين وحيال الأطر الجمعية، بما فيها الأطر الحديثة كالأحزاب والجمعيات والمنظمات غير الحكومية. وقد يكون اللجوء السهل إلى العنف مؤشراً على ضعف فاعلية القيم السياسية أو فقدان الشرعية. استقلال الضمير محدود أو ضعيف. ضميرنا في الغالب مشتقّ من نظم عقيدية، دينية أو دنيوية، تجعلنا مزدوجي المعايير: أخلاقيات لنا ولجماعتنا أو شركائنا في العقيدة، وأخلاقيات لغيرنا أو خصومنا. الأمر الذي يبيح لنا حيالهم سلوكيات لا أخلاقية لو مورست حيال جماعتنا. هذا ازدواج في المعايير داخل مجتمعاتنا الوطنية يكشف أن دائرة المواطنة ودائرة الأخلاق غير متطابقتين. أخلاقنا الجنسية منافقة ومزدوجة: في السر خلاف العلن، للرجل خلاف المرأة، وفي بلادنا خلاف خارجها.
تحزيب أو تديين أو تطييف الأخلاق هو، بكل بساطة، تحطيم لروح المبدأ الأخلاقي، أعني عمومية القاعدة الأخلاقية وشمولها الناس جميعاً. وهو منبع فساد الضمير وتخريب أية أخلاقية عامة متّسقة. ومنبعه ذاته هو استخدام الأديان والطوائف والأحزاب سلالم صعود إلى السلطة أو استئثار بها، الأمر الذي يجمّد تطورها الذاتي ويفاقم نقاط ضعفها المحتملة.
ليس العمل مقياساً للقيم. يغتني الناس من الريع، من السرقة والهبش، من حيازة السلطة القسرية، من التهريب.
إغراء العنف في مجتمعنا وطغيان السلطات يتمفصلان جيداً مع تعطّل نظم القيم وفقدانها فاعليتها واتساقها (برهان غليون) وتهافتها الداخلي. وأنظمة الحكم قدوة أخلاقية سيئة على الدوام. فهي تكذب كثيراً وتمارس العنف كثيراً وتسرق كثيراً. ورغم أنها <<دول مربية>>، تستولي على التعليم والإعلام والثقافة..، فإنها مثال لقلة التربية وفساد الأخلاق. الدولة ليست فاعلا أخلاقيا، ولا تجسيدا للأخلاقية الموضوعية (هيغل)، ولا هي إطار للفعل الأخلاقي. التزامنا الأخلاقي يتجه نحو ما فوقها (الأمة العربية أو الإسلامية) أو ما تحتها (الطائفة أو العشيرة أو الحزب..).
وتفتقد مجتمعاتنا إلى آليات مجرّبة للنقد والنقاش، تراقب فساد الأخلاقيات وتتكفل بإصلاحها وضمان اتساقها.
آفة أخلاقياتنا هي النفاق والازدواجية. هذا ناجم عن انقطاع فعلها على حياتنا الاجتماعية والسياسية والخاصة. نفعل شيئاً لا ينضبط بقيم، ونعلن قيماً لا تؤثر في فعلنا. أخلاقيات الغربيين غير منافقة إلا من وجهة نظر تطابق الدائرة الأخلاقية مع العالم كله، فيما وراء الأمم والدول.
جملة معترضة منهجية
المقارنة بين الغرب وبيننا ممارسة فكرية خطرة ومفعمة بالمنزلقات الإيديولوجية، قدر ما هي تلقائية ومبتذلة. فمن السهل أن تنحطّ المقارنة إلى معايرة، تجعل من الغرب معياراً للعالم ويغدو التقدم سعياً للمطابقة معه. هذا المنهج الذي يتناسب شيوعه مع عدم الوعي به يولد الشقاء والبؤس والشعور بالنقص، وليس الوعي بالاختلاف والفوارق أو حتى وعي النقص ذاته. إلى ذلك فإن مقارنة العرب بالغرب لا معنى لها بكل بساطة. يقارن المرء بين جوانب محددة وحسنة التحديد فقط كي يحصل على نتائج معقولة، أما إغراء المقارنات الكبرى فلا علاقة له بمعرفة ولا بإصلاح. على أن المقارنة مشروعة إن تجنّبت هذين المنزلقين فرفضت المعايرة وتفادت مقابلة كل بكل. هذا ما نأمل أننا التزمنا به هنا.
أخلاقيتان
هل نحن أقلّ أخلاقية من الغرب؟ مبدئياً لا. كثيراً ما نتشدّد في التزامنا بمعايير الأخلاق، لكن أخلاقيتنا تفتقر إلى أساس مشترك متين كالذي يمثله التقاء مبدآ المنفعة والحرية في المذهب الليبرالي. أخلاقيتنا غير متسقة، والاتساق هو أخلاق الأخلاق، الخلق الذي ينبغي أن تتحلى به نظم القيم الفاعلة. بالمحصلة العملية سلوكنا بالفعل أقل أخلاقية من سلوك الغربيين.
ماذا عن الحكم المعند بان الغربيين عديمو الأخلاق؟ هو بكل بساطة مؤشر على اختلاف الأخلاقيات. نأخذ عليهم شيئين أو ثلاثة: الأخلاقية الجنسية، نظام الأسرة، وأخلاقية العلاقات الدولية. يستطيع أي كان أن يعلّق على وضع المرأة لدينا، وعلى القمع السياسي المستشري في بلادنا، وعلى العلاقات بين الدول العربية، أو بين المكوّنات الأهلية لكل من بلداننا. ولو توفرت دراسات اجتماعية ذات صدقية لتبين على الأرجح أن شباننا وفتياتنا أقلّ عفة مما نفضل أن نعتقد. إننا نميل كالعادة إلى رؤية واقع الغربيين كما هو، ورؤية واقعنا كما ينبغي أن يكون. هذا غير متّسق.
أما نظافة الشوارع ووضع المرافق العامة ونظام العمران المديني وأنظمة السير.. فأمور تدلّ على درجة أعلى من الانضباط وصفاء النفس في جهتهم، والفوضى السلوكية والنفسية والقيمية في جهتنا.
أخلاقية الغربيين ليبرالية، تبيح كل ما هو غير مضرّ للغير، فيما أخلاقيتنا سلطوية تحرم كل ما لا يبيحه الدين أو السلطة أو الأسرة أو الحزب. كان يمكن أن يعتبرها من يشاء أرقى من أخلاقية الغربيين لو كانت متسقة، أي لو استندت إلى قواعد واضحة، موحّدة، نتعلّمها في الأسرة والمدرسة والدولة، وتمكننا من التوجه في العالم بفاعلية وانسجام. ليس الأمر كذلك. نتعلم في الأسرة قيماً لا تتوافق مع تلك التي نتعلّمها في المدرسة، وفي الشارع قيم متعارضة مع هذه وتلك، وفي سرنا قلما نتصرّف كما في علننا، ويجزم كثيرون منا أن الدولة لا قيم لها ولا ضمير، وقد يسمّيها بعضنا عصابة، وكثيراً ما تتصرف بالفعل كعصابة لا ذمام لها.
أخلاق بلا أخلاق
لا تجد هذه الأخلاقية حلاً لمشكلة الاتساق المفقود غير الإمعان في التشدّد والإلحاف على الالتزام بأوامرها ونواهيها دون نقاش. بذلك تخلق تعارضاً بين فكرتنا عما هو صالح وبين مصالحنا. وهو ما يقود بدوره ضعف ولايتها على سلوك الأفراد والأسر والجماعات الأهلية. والمجتمع والدولة. فمن المنطقي أن يتحايل الأفراد على أخلاقية تشوّش حكمهم ولا تساعدهم في التوجه بيسر في العالم الذي يعيشون فيه. ومن تعارض سعينا وراء مصالحنا المشروعة مع فكرتنا عن الصالح ينبع التراخي والنفاق في سلوك الأفراد والأسر... وكذلك التشدّد في الأخلاقية ذاتها. سلوكنا ينفلت وقيمنا تتشدّد. ومقابل الانفلات ندفع جزية كلامية لقيم معطلة الفاعلية. فأصحاب السلطات الدينية أو الأسرية والسياسية، وكذا الأفراد المتطلعون إلى حيازة سلطة على غيرهم، يعلون من شأن القيم التي يهيمنون على رعايتها والسهر على التزام الناس بها كما يُعلي كل بائع من شان ما يبيع. التشدّد هذا عامل إضافي في تعجيز الناس عن الالتزام بالأخلاقية ودافع للالتفاف عليها والتلاعب بها. وهكذا تنشأ حلقة خبيثة: تراخي الناس الأخلاقي يدفع أصحاب السلطة الأخلاقية إلى التشدد، والتشدّد يُضعف فاعلية المنظومة الأخلاقية ويفكّك النسيج الأخلاقي للمجتمع. وأعني بالتشدد (أو التعسير) محورة السلوك حول قيمة عليا واحدة (الدين، العقيدة السياسية...) من ناحية، والتقليل من شأن مطالب الحياة العادية من ناحية أخرى. فالتشدّد نزعة أخلاقية لا إنسانية. وهو رذيلة الأخلاقية كما اليسر فضيلتها. يكفي أن يستمع المرء إلى خطاب صلاة الجمعة في مساجدنا حتى يتبين أننا نتعايش مع ازدواجية أخلاقية فتاكة. ثمة قيم يُبشّر بها من على منبر المسجد يصعب الالتزام بها لفقدها الاتساق الذاتي ولعدم اتساقها مع الحياة المعاصرة. إن علي أومليل على حق حين يقول إن ما يدعو له خطباء الجمعة في الغالب يولّد شقاء الوعي في أوساط المؤمنين وعذاب الضمير (عبر التركيز الدائم على خيانة المسلمين للإسلام)، وهو بمثابة إعلان طقسي لحرب أهلية ثقافية (كتابه <<سؤال الثقافة>>، 2005). قد نضيف أيضاً إنه يخلق انفصالاً للإسلام عن العصر ويطبع العداء للعالم بوصفه داراً للغواية والضلال. هذا ما يجعل من الازدواجية حلاً وليس مشكلة. نزدوج كي نعيش في عالم لم نصنعه ولا سبيل لنا للسيطرة على شروط حياتنا فيه. لكن هذه حياة غير متوافقة مع الإيمان الحي. ومن هنا يتولّد سلوك يعتقد انه إذا سدّد ما عليه لله عبر الصلاة في المسجد فقد حاز رخصة للتلاعب بحقوق الناس والتملّص من التزاماته حيال أقرانه (برهان غليون). هذا يتسبّب في خروج شبان مرهفي الحس على التركيبة الحياتية الأخلاقية كلها، ولجوئهم إلى التكفير والإرهاب والتشدّد. فالتكفير والإرهاب هو بحث عن الاتساق المفقود في حياة سياسية وأخلاقية ودينية لا نظام لها. أسامة بن لادن أكثر اتساقاً ممن أصدروا الفتاوى لإدانته. هنا المشكلة: المتّسق خارج العصر، وما قد يكون قريباً من العصر غير متّسق. كيف الاتساق الذاتي والعيش في العصر معاً؟