"بفضل العلم والعلماء سيعود الجنس البشري إلى العصر الحجري". ما أحوجنا هذه الأيام إلى استذكار تلك المقولة التي أطلقها المفكر والسياسي البريطاني الشهير وينستون تشرشل وهو يحذر من خطر العلم والعلماء على كوكب الأرض وساكنيه.
"بفضل العلم والعلماء سيعود الجنس البشري إلى العصر الحجري". ما أحوجنا هذه الأيام إلى استذكار تلك المقولة التي أطلقها المفكر والسياسي البريطاني الشهير وينستون تشرشل وهو يحذر من خطر العلم والعلماء على كوكب الأرض وساكنيه. وقد كان الكاتب المسرحي السويسري ديورنمات وكذلك الأديب الألماني بريولت بريخت قد عالجا خطر العلم على االطبيعة والإنسان وحذرا من أن يهدم العلماء والصناعيون ما بنته البشرية على مر العصور. ومن الواضح أن تنبؤات تشرشل بدأت تتحقق شيئاً فشيئاً. فمن سخرية القدر أن العلوم المسخـّرة في الصناعات المتعددة بدأت تدمر الطبيعة وتجعل الإنسان يعود إلى نقطة الصفر كما شاهدنا في (نيو أورليانز) حيث وجد نفسه فجأة بلا مأوى أو إنارة أو طعام أو شراب، حتى إن الأعاصير حرمته من استغلال ما تيسر في الطبيعة.
ربما كان تشرشل يعتقد أن السلاح النووي هو الذي سيمحو الحضارة البشرية ويعود بالانسان إلى العصور الحجرية، ولم يخطر له على بال أن الانتاج والاستهلاك الصناعيين هما اللذان سيتسببان في تدمير الإنسان والطبيعة. ولو كان تشرشل حياً لاعترف بإنه كان متفائلاً عندما قال إن العلم سيعيدنا إلى العصر الحجري، فسكان (لويزيانا) لم يستطيعوا الاستفادة حتى من الحجارة بسبب الأعاصير والفياضانات العاتية التي غمرت واقتلعت كل شيء.
إن إعصار (كاترينا) وما تبعه من أعاصير أخرى كـ (أوفيليا) هي نتيجة طبيعية لما جناه العلم والعلماء والشركات التي استغلت اكتشافاتهم واختراعاتهم على الشعب الأمريكي المسكين. إن المشردين والمنكوبين في الولايات الأمريكية المصعوقة بغضب الطبيعة هم ضحايا تلك السياسات الصناعية الفتاكة والوحشية، التي لم تعر البيئة اهتماماً يذكر وراحت تعبث بها حتى جعلتها تفقد توازنها ومن ثم تأخذ بثأرها من الإنسان القاطن في جنباتها. فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. وهذا لا ينطبق فقط على ردود فعل الأفراد تجاه بعضهم البعض بل أيضاً على الطبيعة. لقد ضاقت البيئة ذرعاً بالعبث العلمي والصناعي الذي تتعرض له منذ عقود على أيدي حكومات ضربت عرض الحائط بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الطبيعة. وبالتالي فإن الأعاصير التي تجتاح أمريكا هي رد فعل البيئة على منتهكي حرمتها.
يقول الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف: "إذا كان يريد الرئيس بوش تجنب تكرار مشاهدة صور الجثث المتحللة التي مازالت تطفو فوق المياه، فهناك خطوة لا مناص منها يمكن له أن يتخذها لحماية الناس في المستقبل وهي: حل مشكلة ظاهرة الاحتباس الحراري. فهناك مؤشرات متزايدة تفيد بأن الاحترار الكوني الناتج عن الصناعة والاستهلاك البشري سينتج عنه المزيد من الأعاصير القوية من الدرجة الخامسة. والآن بعدما رأينا الدمار الذي ألحقه إعصار (كاترينا) بولاية لويزيانا - علما بأن هذا الإعصار من الدرجة الرابعة فقط- فإنه سيكون من الجنون أن يستمر الرئيس بوش في رفضه بلورة سياسة وطنية حول الغازات المسببة للاحتباس الحراري."
وفي هذا الصدد صرح خمسة علماء في مجال المناخ "أن الأدلة العلمية المتاحة تشير إلى أنه من المرجح أن يتسبب الاحترار الكوني في أعاصير أكثر دماراً مما كانت عليه في السابق". والمعروف بشأن تكون الأعاصير أنها تستمد طاقتها من المياه الدافئة، لذا فإن ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات بسبب الاحترار الكوني يمد الأعاصير بقوة هائلة تجعلها أشد قسوة. بعبارة أخرى فإن درجات حرارة المحيطات والبحار هي التي تقدم وقود الأعاصير. وكان كيفين ترنبيرث عالم الطقس قد نشر مؤخراً بحثاً في صحيفة (ساينس) يؤكد فيه "أن التغييرات الجوية تدفع الأعاصير إلى إسقاط المزيد من الامطار، وبالتالي تصبح اكثر خطورة".
وقد أفادت التجارب العلمية أن الاحتباس الحراري مسؤول بدرجة مباشرة عن مضاعفة عدد الأعاصير من الدرجة الخامسة المدمرة. بالإضافة إلى ذلك فهناك مزيد من الأدلة العلمية الموثوقة التي تؤكد أن الأعاصير أصبحت أكثر قوة من السابق. ويقول أحد العلماء: "تشير الدراسات العلمية التي قمت بها إلى أن الاستمرار في الاحترار سيؤدي إلى ارتفاع جوهري في الخسائر المرتبطة بالأعاصير خلال القرن الحادي والعشرين".
وليس هذا فقط بل يسهم الارتفاع الحراري في رفع مستوى مياه البحر، مما يضاعف القوة التدميرية للأعاصير. وفي هذا السياق تنبأت إحدى وكالات حماية البيئة في دراسة لها بارتفاع مياه المحيط الأطلسي ومياه خليج المكسيك بحوالى قدم واحد بحلول سنة 2050، وسيستمر الارتفاع ليصل إلى قدمين في 2100. وبحسب تلك الوكالة فإن ارتفاعاً في مستوى المياه بحوالى قدمين سيؤدي إلى ابتلاع جزء مهم من الولايات المتحدة يتعدى في مساحته ولاية ماساشوسيتس. كما سينتج عن ذلك الارتفاع في مستوى المياه المزيد من الفيضانات الساحلية. غير أن المشكلة مع إدارة الرئيس بوش،حسب كريستوف، هي استمرارها في معارضة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من الاحترار الحراري وضبط الغازات المنبعثة من المصانع والآليات. ومن المعروف أن الإدارة الأمريكية رفضت التوقيع على المعاهدة الدولية الشهيرة بـ (كيوتو) التي تجبر الدول على الالتزام بحد معين من الغازات السامة التي تضر بالبيئة.
ولعل أكثر الناقمين والشامتين بالحكومة الأمريكية هي "جماعة الخضر" في ألمانيا التي وجدت "أن الولايات المتحدة هي السبب الأول في حدوث هذا الإعصار بعد رفضها الانضمام إلى المعاهدة الدولية الداعية إلى تخفيض نسبة الغازات الملوثة ، وبالتالي أسهمت في تفاقم حالة الانحباس الحراري الذي تعاني منه الكرة الأرضة، ذلك الانحباس الذي أدى إلى اضطراب تيارات الهواء فوق المحيط، وبالتالي ظهور تلك الأعاصير المهولة التي لم تشهد مثلها البشرية في السابق. وتعتقد جماعة الخضر وحماة البيئة أن العبث مع الطبيعة بالشكل السافر والجشع الذي تظهره الدول الصناعية في العصر الحديث، هو السبب الرئيسي للكثير من الكوارث البيئية والأمراض التي تطول جميع المخلوقات فوق كوكبنا الأزرق الجميل" حسبما تورد الكاتبة أميمة الخميس.
بدوره انتقد نائب رئيس الوزراء البريطاني جون بريسكوت سجل الولايات المتحدة في مكافحة الاحتباس الحراري. وقال أمام الكونجرس الدولي لـ (مجلس الحضر الأوروبي) "إن التغير المناخي مسؤول عن ارتفاع مستوى مياه البحار وتزايد العواصف". وقارن بريسكوت بين (نيو أورليانز) والدول المكونة من جزر التي قال إنها معرضة لخطر الغرق. وأضاف أن الإدارة الأمريكية "أخطأت" في عدم انضمامها إلى باقي الدول الصناعية الكبرى في دعمها لاتفاقية (كيوتو) الخاصة بمكافحة التغير المناخي وأن مصير بعض الولايات قد يكون كمصير جزر المالديف المعرضة للاختفاء عن وجه الأرض بسبب الفيضانات. وكانت الحكومة الالمانية بدورها قد انتقدت الرئيس الأمريكي جورج بوش بشدة، عندما رفض التصديق على اتفاقية كيوتو الخاصة بمكافحة ظاهرة ارتفاع درجة حرارة الارض.
وفي أعقاب الإعصار تبدو واشنطن الرسمية كلها، وقد حبست أنفاسها خوفا من أن يتسرب السر الرهيب، وهو أن سبب حدوث إعصار كاترينا يرجع إلى زيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وزيادة معدلات الاحتباس الحراري. يقول أحد الأمريكيين: "كيف نشرح لأطفالنا أننا نحن معشر الأمريكيين الذين لا نمثل أكثر من خمسة في المائة من إجمالي سكان العالم، نستهلك ربع كميات الطاقة المستخرجة من أنواع الوقود الأحفوري المنتج كل عام؟ إن ما حدث في الحقيقة يُعد عاراً على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى كل شعوب الدول الأخرى، التي قدمت أهواءها ورغباتها الذاتية قصيرة الأمد، على رفاهية كوكب الأرض. إن مجالنا الحيوي قد بدأ يتلوى ألماً مما يعني أنه لم يعد أمامنا مكان يمكن أن نختبئ وراءه، أو نلجأ إليه. سوف تكون هناك الآلاف من المراسم الجنائزية خلال الأيام القادمة للترحم على أرواح الضحايا والمفقودين والمصابين، وستكون هناك أيضاً انتقادات شديدة واتهامات قاسية. ومن الجدير بالذكر أن "الأمريكيين يتسببون في انبعاث كمية من غازات الاحتباس الحراري تزيد على متوسط ما يسببه الاوروبيون بمرتين ونصف المرة" فما بالك بالدول الفقيرة. أي أن الكبار يشكلون أكبر خطر على كوكبنا.
ويقول أمريكي آخر: "إذا ما أُتيح لي أن أهمس في أذن الرئيس بوش لدقيقة واحدة فسوف أقول له: لو نظرت يا سيدي الرئيس بعمق في عيني العاصفة، لرأيت الموت المستقبلي للكوكب الذي نعيش فيه... سيدي الرئيس.. وفر علينا مواعظك وخطبك عن تصميم الشعب الأمريكي وقوة عزيمته وقدرته ’’على اجتياز العاصفة ومواصلة حياته’’! وعليك بدلاً من ذلك أن تبحث عن السبب الذي جعل أمريكا تصبح في عين الأعاصير. إنه سياساتنا الصناعية والاقتصادية القاتلة". ولا شك أن آخرين سيقولون للرئيس الأمريكي: "لا تتصرف مع الأعاصير كما تتصرف مع ما يُسمى بالإرهاب. عليك معالجة الأسباب قبل أن تدين النتائج. كاترينا...من صنع أيدينا يا سيادة الرئيس"!!