كتب الصحافي البريطاني باتريك سيل كتاباً أول: الصراع على سوريا. ثم كتب كتاباً ثانياً: الصراع على الشرق الأوسط. لو افترضنا أنه يواصل التأريخ لهذا البلد فمن المجدي التساؤل عن العنوان الذي قد يضعه للجزء الثالث.
«الصراع على سوريا»، في الخمسينات وبعدها كان تعبيراً عن وجود محاور سياسية واستراتيجية عربية وإقليمية متحالفة ومتخاصمة مع مراكز الاستقطاب العالمي وتحديداً مع الثنائية الدولية. كانت سوريا تمر في مرحلة اضطراب داخلي وعدم استقرار، مما دفع إلى زيادة المطامع فيها والسعي إلى استمالتها وتحديد وجهتها العامة.
نظرية باتريك سيل هي أن الرئيس الراحل حافظ الأسد وضع حدا، في 1970، لهذه المرحلة وقاد بلاده نحو أن تصبح طرفاً مصارعاً على مصائر الشرق الأوسط. بكلام آخر نقلها إلى طرف بعد أن كانت مجرد موضوع لتجاذبات.
فلقد نجح في توسيع قاعدة حكمه ، وأجرى مصالحات وأحدث انفتاحاً محدوداً ودخل في تحالف متين مع مصر والمملكة العربية السعودية خيضت حرب أكتوبر في ظله، ولما وقع التباين السوري ـ المصري إثر زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس استندت دمشق إلى عمق عربي رافض لهذا الانفراد.
صادق الرئيس الراحل منظمة التحرير وخاصمها ولكنه لم يتخل لحظة عن تحالفات عربية وثيقة أبرزها على الإطلاق تحالفه مع الرياض. دخل عسكرياً إلى لبنان واتبع سياسات رافقت تعرجات الوضع اللبناني والانعكاسات الإقليمية عليها. كان، بمعنى ما، قريباً من الاتحاد السوفييتي من دون أن يلغي هامش الاستقلالية.
وأبقى على قدر من العلاقات مع الولايات المتحدة فلم يضع نفسه في وضعية المناطحة الشاملة معها. ولما انتهت الحرب الباردة تأقلم مع هذه النهاية ببراغماتية ضعيفة الصلة بشعارات حزب البعث وهي الشعارات التي لم تكن حاضرة بقوة في العلاقة التي نسجها مع البعث الحاكم في العراق.
بكلام آخر لا مبالغة في القول إن سوريا السبعينات والثمانينات والتسعينات كانت، ولو بتفاوت، دولة عربية مركزية، تملك أوراق قوة، ويحسب حسابها عند رسم السياسات الإقليمية، إن هذه الوضعية هي التي سماها سيل «الصراع على الشرق الأوسط».
إن الناظر إلى أحوال العالم والمنطقة، سوريا ضمنا، لا يسعه القول، اليوم، إن البلد يشهد صراعاً إقليمياً ـ دولياً على مصيره، إن الصراع منتف لانتفاء المتصارعين، أي لعدم وجود مثل هذه المحاور وامتداداتها.
لا مجازفة في القول إن انتهاء الحرب الباردة جعل النظام الرسمي العربي كله قريباً من المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وباحثاً لنفسه عن موقع في ما سمي ذات مرة «النظام العالمي الجديد»، صحيح أن أنظمة عربية تملك جملاً اعتراضية تقولها حيال بعض سياسات واشنطن.
غير أننا، هنا، أقرب إلى «الاعتراض النقابي» منا إلى الاعتراض السياسي الذي يطرح وجهة مختلفة جذرياً سواء في حلول المشاكل الاقتصادية أو في ما يخص «النزاع» مع إسرائيل.
وفي استطراد ذلك، فإن الانكفاء المصري والتحول التركي والوضع العراقي والتواضع السعودي لا يجعل من هذه الدول نقاط ارتكاز محلية تسعى إلى اجتذاب سوريا نحو موقع محدد وضد آخر.
لم يحل محل الاستقطاب الدولي الثنائي أي بديل يوحي بتعددية جدية أو يشجع أحد أطرافه على الاستثمار في سوريا سياسياً في مواجهة طرف آخر. الصين قوة صاعدة طبعا، وهي تعيش حراكاً دبلوماسياً ملحوظاً، إلا أنها بعيدة جداً عن الاهتمام بشؤون الشرق الأوسط. وروسيا تحاول من وقت لآخر بعث الحرارة في علاقتها مع دمشق.
ولقد شهدنا محاولة عن ذلك في الزيارة الأخيرة للرئيس بشار الأسد إلى موسكو والضجة المثارة حول صفقة السلاح. ولكن ما سبق ذلك وما تلاه من محطات مفصلية أظهر أن فلاديمير بوتين يراعي «صديقه» جورج بوش بالدرجة الأولى.
وإذا كانت أوروبا الغربية حاولت، منذ 1995، وعبر «مسار برشلونة» افتتاح خط مواز للخط الأميركي فإن الوقائع الدامغة تؤكد أنه متكامل معه وليس مناهضاً. أضف إلى ذلك أن بريطانيا أوقفت مساعيها للوساطة مع دمشق، وأن فرنسا انتقلت إلى موقف شديد السلبية منها، مغرية ألمانيا بالسير معها.
ليس هناك، كما هو واضح، من يتصارع حول سوريا، ثمة تباينات طبعاً ولكنها لا تشكل نشازاً عما يريده ضابط الإيقاع الأميركي. لم يعد عنوان الجزء الأول من كتاب باتريك سيل صالحاً تماماً.
ولكن العنوان الثاني، أيضا، ليس صالحاً. فالأمانة تقضي القول إن سوريا نفسها لم تعد في موقع من يستطيع الصراع من أجل التأثير في أوضاع الشرق الأوسط. إن العلاقة مع إيران متينة ومؤثرة ويحسب لها حساب.
ولكن هذا وحده لا يكفي. إلى ذلك، ثمة صلات وثيقة لسوريا بأوساط عراقية وفلسطينية ولبنانية، ولقد نجحت في تطبيع علاقاتها مع «السلطة الوطنية» ومع تركيا. نعم إن هذه «أوراق» مهمة ولكنها لا ترتقي إلى مستوى التأثير الاستراتيجي ولا تمنع سوريا من الاضطرار إلى إعادة تموضع تجعلها في موقف دفاعي.
لا شك أن العلاقة البارزة لما تقدم هو الاضطرار إلى الانسحاب من لبنان أولاً، وللانسحاب بالشكل الذي تم فيه ثانيا. لقد حصل ذلك عبر تلاقي روافد متعددة بينها الضغط الدولي شبه الاجتماعي، والتخلي العربي، وموجة الاعتراض اللبناني التي تجمع بين التذمرات المشروعة وبين الرهانات على الخارج والرغبة في تصفية الحسابات مع سوريا لمصلحة آخرين.
ويتأكد اليوم أن الانسحاب لم يكن كافياً من أجل استئناف علاقات طبيعية بين البلدين. فالرقابة الدولية على سلوك دمشق في بيروت قوية، وثمة قرارات دولية عديدة قابلة للاستخدام ضد سوريا انطلاقاً من لبنان، إن ما هو متداول في بيروت يؤكد أن ما هو معد للبلد يذهب في الاتجاه الذي سارت عليه الأمور في الأشهر الأخيرة.
وفي الحديث عن الوضع اللبناني وتحوله، أو قابلية تحوله، إلى عنصر ضاغط على سوريا ثمة تلاق أوروبي ـ أميركي لا يغير منه شيئاً «تظاهر» فرنسا بأنها تكتفي من الغنيمة بالإياب، أي فقط، بحماية سيادة لبنان.
لم يعد سراً أن سوريا تواجه، حالياً، مشروعاً أميركياً لتطويقها. ويحصل ذلك ليس من أجل إرغامها على تسوية ما، بل من أجل إفقادها القدرة على فرض شروط للحصول على تسوية عادلة بالحد الأدنى، تريد واشنطن استسلاماً من النظام أو تغييراً جذرياً مفتوحاً على فقدان النظام لأي مشروعية.السياق العام من أجل اكتمال الثلاثية واضح. بقي أن نراقب حصيلة المواجهة ومن ثم يصبح البحث عن عنوان سهلاً.