... ما يظهر من كل من السياستين السعودية والسورية حيال الوضع العراقي... يمكن وصفه بانه اكثر من تقاطع مصالح غير معلن واقل من تحالف معلن. واذا كان ممكنا ان يقبل اللغويون العرب تحويل معنى كلمة "تململ" الى "تحالف غير معلن"... فان كلا من التململ السوري والسعودي يعني هذا المشترك الاكيد بينهما ضد الوضع العراقي القائم...
هذا الاستنتاج "المركّب" (بدل كلمة المعقّد) يسمح به ما نُسب امس الى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل من تصريحات امام "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك... والافتتاحية التي كتبها رئيس تحرير "الثورة" السورية في عدد الامس ايضا الدكتور فايز الصايغ (انظر متن الصفحة).
الفارق الرئيسي طبعا بين كلام الفيصل وكلام الصايغ هو ان الاول يُعبر مباشرة عن القلق السعودي من الصيغة الداخلية الجديدة للدولة العراقية، وتحديدا الصيغة الفيديرالية كصيغة "تقسيمية" للعراق، ومن خلال ذلك يعبر عن قلقه من ازدياد النفوذ الايراني، بينما الخطاب الثاني (السوري) يركز على الاحتلال الاميركي وعبره ما يتاح من نفوذ اسرائيلي...
في الكلامين... بالنتيجة الواضحة اعتراض على المشروع الاميركي في العراق: السعودي ضد الدستور الجديد الذي يتبناه الاميركيون بل يهللون له كانجاز رئيسي والسوري ضد الاحتلال الاميركي.
الكلام السعودي يلمّح الى النفوذ الايراني... وهذا يدل على مدى التململ الحاد لدى القيادة السعودية التي هي الآن بيد من كان مسؤولا عن تحسين العلاقات السعودية – الايرانية منذ كان وليا للعهد واصبح الآن ملكا ويصدر على لسان الامير – الوزير الذي كان معنيا جدا بالملف الايراني تقليديا رغم ابتعاده عن الملف السوري (تقليديا ايضا!) وهو الامير سعود الفيصل.
اذن هذا يدل على جدية المخاوف السعودية عندما يعبر عنها "صديقان" بصورة من الصور لايران في اعلى الهرم السعودي، وهي مخاوف – بالنتيجة – باتت تبدي قلقها من الشيعيتين المحلية (العراقية) والاقليمية (ايران) من حيث مخاطر تأثير الاستخدام الاميركي للاولى على وحدة منطقة الخليج بكاملها.
بينما المخاوف السورية لا اثر في خطابها للدور الايراني، ولا لكل التركيبة الداخلية العراقية، وهي عادة راسخة في خطاب النظام السوري الذي لا يحب ان يسمي "العوامل الداخلية" باسمائها ويركز على تسمية "العوامل القومية".
علينا ان نلتفت هنا من زاوية تدقيق سياق هذين الخطابين السوري والسعودي الى انهما يأتيان في سياق التململ الرسمي العربي الاعم من موقع العراق الجديد الاقليمي وتحديدا الموقف المصري الذي يثير المواضيع نفسها لكن بصيغة اقل قلقا او اعطاء للانطباع عن القلق وخصوصا حيال ما يسميه المصريون "المكونات التوحيدية العراقية" وإن كان موضوع الهوية (العربية) للعراق هو "مركز" الاهتمام.
هكذا في اللغة السياسية، السعوديون باتوا يثيرون موضوع "الفيديرالية" (بدءا من الملك عبدالله كما نقله غسان تويني مؤخرا عن لسانه مباشرة)، اما السوريون فيثيرون موضوع "الاحتلال" بينما المصريون موضوع "الهوية".
ربما يكون تفسير "الاسترخاء" المصري (النسبي) هنا ناتجا عن ان الدولة المصرية لا تشعر بالخطر المباشر على وحدة الخريطة المصرية، مثلما تشعر، كل على طريقتها، السعودية وسوريا المجاورتان بل الملاصقتان بل الملتصقتان باكثر من معنى جيوبوليتيكي وديموغرافي للعراق.
السؤال السريع والملح هنا هو هل لانتقال التعبيرات السعودية والسورية عن تناقض دمشق والرياض مع المشروع الاميركي في العراق الى درجة اعلى من العلانية، صلة بما يظهر انه تفاقم المأزق الاميركي في العراق، خصوصا في الاسابيع الاخيرة ومساهمة ضربة الاقدار الطبيعية في "نيو اورلينز" في اضعاف غير مباشر (ولربما مباشر) لسياسة الرئيس جورج بوش العراقية؟ فعدا عن ضغط الاعباء المالية والاقتصادية على الاقتصاد الاميركي بعد نكبة "اعصار كاترينا" ومساهمته في خلق جو "الكارثة الوطنية" في اميركا... تصدر مجلة "التايم" في عددها الاخير حاملة "تصعيدا" في نمط الاسئلة السلبية الاميركية الداخلية عن العراق: "هل فات الاوان لربح الحرب" في العراق؟
المفارقة طبعا هي اننا نرصد اصطداما مباشرا بين حليف رئيسي (وفعلي) للولايات المتحدة مثل المملكة السعودية في الاستراتيجيات النفطية، وفي الامن الخليجي بل وفي لبنان (كدائرة عادت مهمة للسياسة الاميركية) وفي فلسطين... وبين سياسة الرئيس بوش...
على الضفة السورية، من المثير جدا للانتباه ان القيادة السورية في وقت تحرص فيه يوميا على نفي علاقتها بتسرب المقاتلين الاصوليين الى العراق، فان اعتراضها على الاحتلال الاميركي يتصاعد في وسائل اعلامها الى حد ان افتتاحية "الثورة" امس تبشر علنا ببدء العد العكسي لهذا الاحتلال، وهذا يعني بدء العد العكسي – من وجهة نظر دمشق – للطاقة الهجومية الاميركية في المنطقة كما ارتسمت بعد سقوط بغداد وعبرت عن نفسها بالهجوم السياسي الذي ادى الى الاخراج القسري للجيش السوري من لبنان عبر القرار 1559 الاميركي – الفرنسي، القرار "النموذج لما يمكن ان يحققه التفاهم الاميركي – الفرنسي" كما كتبت افتتاحية "الواشنطن بوست" مؤخرا.
من المفيد التذكير – ولو بمعطى معروف – ان الرصد يطال دولتين شكلتا – حتى سقوط بغداد رسميا – ضلعين من الاضلع الثلاثة للمثلث الاكثر فاعلية في السياسة العربية وهما السعودية وسوريا (ومعهما مصر) في العقد ونصف العقد الاخير، اي منذ تهميش صدام حسين بعد حماقة غزوه الكويت.
ولهذا من الطبيعي ان يكون هذا المثلث هو الاكثر شعورا بعبء سقوط او تصدع "النظام الاقليمي العربي" التقليدي في العقود الاخيرة، لاسيما اذا كان الهجوم الاميركي حتى في ظل الود الشخصي بين الرئيس بوش والملك عبدالله، يطرح مباشرة "تغيير الانظمة" في المنطقة. ومن الانصاف ربما القول ان السياسة السعودية لم تكن راغبة بان تجد نفسها على هذه المسافة من التناقض مع السياسة السورية في لبنان وكانت طبعا تفضّل – وربما سعت – ان يكون النظام السوري مرنا في سياسته اللبنانية فينسحب ذاتيا دون ما يؤدي الى هذا القدر من الاستنفار اللبناني والدولي ضده. لان مبررات علاقة سعودية ايجابية مع سوريا مستمرة على المستوى العربي قبل سقوط بغداد وبعده لولا الاحراج اللبناني الذي تحاول هيبة الملك عبدالله واتزان الدولة المصرية ان يستوعباه مع اقل قدر من الخسائر في سياستهما العربية التي لا تزال السياسة السورية حتى الآن، ضرورة لمصالحهما المشتركة في الممانعة "الخفية" للمشروع الاميركي في العراق... حتى لو ان كلا من اطراف المثلث له وضعيته الخاصة:
ضغط ايديولوجي اميركي على السعودية.
تسوية ضاغطة بين واشنطن ومصر، تجدد لـ"النظام" عبر رئاسة حسني مبارك ولكنها تفرض التغيير الفعلي اعتبارا من الانتخابات البرلمانية التي ربما تؤدي الى "اول رئيس حكومة" لمصر من خارج "مؤسسة 1952" للمرة الاولى.
صراع ضار سياسي وديبلوماسي بين واشنطن ودمشق تعلن فيه دمشق الحرب المفتوحة – سياسيا – في العراق وتنفي معه استخدامها اي وسائل امنية مباشرة او غير مباشرة.