تشهد الفترة الحالية، محكومة أساسا بـ"المزاج العَكِر" في الغرب الذي يولّده المأزق العسكري الاميركي في العراق، وجزئيا بالحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان من خلال السعي لضرب "حزب الله"، تشهد موجة من توقعات استراتيجية يطلقها مفكرون وخبراء حول مستقبل الشرق الاوسط، وفي قلبه العالم العربي، توقعات تتحدث عن "نهاية حقبة" في المنطقة.
في الواقع أبرز توقعين استأثرا بالاهتمام كانا اللذين أطلق كلا منهما في اطار سلة من الاستشرافات، رئيس "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك ريتشارد هاس في عدد "الفورين أفيرز" الاخير للعام 2006 (كانون الاول) في مقالة له تحت عنوان "الشرق الاوسط الجديد" والمستشرق المعروف برنارد لويس خلال مداخلة له في "مؤتمر هرتسليا" الذي عقد مؤخرا في اسرائيل.
الملفت في رؤية كل من هاس ولويس أنهما يبدآن التحليل الاستشرافي من "وصول نابوليون الى مصر" أي منذ مائتي عام وبعض السنوات.
برنارد لويس النازع أكثر نحو البنية الفكرية – الثقافية للمنطقة يتحدث امام النخبة الاسرائيلية عن "نهاية الحقبة النابوليونية" مع سقوط الاتحاد السوفياتي والتي تجعل للشرق الاوسط الآن هوية رئيسية هي الهوية الدينية، لا الوطنية ولا الاتنية، وتُوجِّه دول المنطقة وشعوبها الى الحرب مع "الآخر" غير المسلم، بزعامة تيارين: "الوهابي" بقيادة أسامة بن لادن والايراني بقيادة ما يسميه "الثورة الايرانية الثانية" الجارية حاليا بعد الثورة الاولى عام 1979. ويضيف ان الطابع الثاني للحقبة الجديدة من وجهة نظره بعد نهاية "الحقبة النابوليونية" هو الانقسام السني – الشيعي على غرار الانقسام الكاثوليكي البروتستانتي السابق في أوروبا.
أما ريتشارد هاس فهو يتحدث عن "نهاية الحقبة الاميركية" في المنطقة، الحقبة التي استمرت في رأيه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، أي أقل من عقدين، وانتهت مع نتائج الاحتلال الاميركي للعراق التي حملت معها صعود الاسلام الراديكالي السني والشيعي وصورة سيئة لأميركا في "القرية الاقليمية" التي أصبحها العالم العربي مع انتشار التلفزيونات المعولمة بالاقمار الصناعية.
•••
إنها أولا توقعات "المزاج السيىء" التي تطلق أحكاما عن "نهاية الحقبات"، هنا "الحقبة النابوليونية"، هناك "الحقبة الاميركية" (مرت فترة في العديد من الكتابات الغربية بعد 11 ايلول 2001 تتحدث عن "نهاية الحقبة السعودية" البادئة عام 1973، مع صعود أسعار النفط ويظهر هذا التوقع غير صحيح الآن!).
في نظر برنارد لويس – وفقا لمداخلته في اسرائيل – الذي يحدد نهاية "الحقبة النابوليونية" هو أن قوى الشرق الاوسط لم تعد قادرة للمرة الاولى على ممارسة ما يعتبره لعبتها المفضلة وهي التحرك بين عدد من القوى الدولية وتأييد هذه مقابل معارضة تلك. إذ يرى لويس ان القوى الدولية لم تعد مهتمة بالمنطقة الشرق الاوسطية – العربية كما كانت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
إذن الذي يحدد "الحقبة النابوليونية" هو نمط اهتمام القوى العظمى بالمنطقة، الذي "يقرر" نهايتها هو تراجع هذا الاهتمام تبعا للمعيار الذي يضعه برنار لويس، سأضع جانبا معنى "تراجع الاهتمام" كفرضية يطلقها المستشرق الكبير ومدى صحة هذا المعنى، لكي أشير الى أن المفهوم السائد لتأثير دخول نابوليون مصر في مطلع القرن التاسع عشر، هو موجة الاصطدام بين البنى التقليدية للمنطقة وبين الحداثة التي حملها معه هذا الغزو. هذا هو المفهوم السائد لدى النخب العربية، أيا تكن اختلافاتها الايديولوجية لـ"الحقبة" التي أطلقها دخول نابوليون. انه مفهوم "حضاري" أكثر مما هو محض "جيوسياسي" لدى النخب العربية كما لدى العديد من المستشرقين والمعلقين الغربيين.
لا أرى هنا إذا سلّمنا بهذا المعيار ماذا تغيّر من "صدمة الحداثة" هذه التي كانت الصدمة الاولى لمسار سيتواصل مع "اصلاحات" محمد علي ثم افتتاح قنال السويس ثم بدء ما سمي بـ"عصر النهضة" العربي الى تأسيس دول المنطقة الجديدة في المشرق".
أين انتهى الصدام بين التقليد والحداثة في المنطقة حتى نعتبر ان "الحقبة النابوليونية" انتهت... لقد تغيرت التحديات مع تغير الغرب نفسه، وانتقلت بُنى المنطقة "النابوليونية"، أي الدول الجديدة، التيارات الاصلاحية، التيارات المعادية للغرب، الليبرالية والأصولية، الى تحديات جديدة، ولكن المشكلة الجوهرية لا تزال نفسها وهي كيفية تعامل بنية المنطقة مع متطلبات التحديث. هذه هي الصدمة التي نقلها معه الطموح الاستعماري النابوليوني كما هو مُسلّم به في أدبيات الفكر السياسي العربي، وبصورة خاصة مسلمات النخبة المصرية التي درست وناقشت طويلا معضلة وعيها لتلازم ثنائية الاستعمار – الحداثة، سواء النخب التي اختارت المواجهة أو النخب التي اختارت التكيف (طه حسين).
فهل أنجزت المنطقة حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، أو حتى اليوم مهماتها التحديثية على المستويات السياسي الاجتماعي الثقافي الاقتصادي العلمي التي رسمها مفكرو "عصر النهضة" المسلمون والعرب أم إننا جوهريا لا نزال دولا ومجتمعات، في قلب هذا التحدي مع ما يسمى بالفشل التنموي والفشل الديموقراطي.
... لهذا ينبغي الاعتراض على فكرة"نهاية الحقبة النابوليونية" والاعتراض أكثر على فكرة نهايتها مع سقوط الاتحاد السوفياتي، لأن الرؤية التي يحملها برنار لويس هنا هي رؤية جيواستراتيجية غالبة للمنطقة في تقريير مصير "الحقبة النابوليونية"، بينما هذا المستوى (الجيواستراتيجي) على أهميته القصوى، هو أحد عناصر صدمة المنطقة المباشرة مع الغرب التي أطلقها نابوليون والتي لا تزال مستمرة كتناقض أساسي أو كسمة حاسمة لعلاقة العرب والمسلمين بالغرب.
باختصار: من نابوليون الى جورج بوش رغم الفارق بين الشخصيتين والزمنين، لا يزال "المستعمِر" هو الذي يحمل معه "التحديث"، تقبله او ترفضه. انه مسار جديدُه الديموغرافي البنيوي في العقود الاخيرة، بدء "استيراد" الغرب "الكفاءات" وأحيانا الايدي العاملة كما في حالتي العمال الاتراك والمغاربة في فرنسا والمانيا في النصف الاول من القرن العشرين وبعده بقليل الى داخل متروبولاته وراء المحيطات، وحتى دولة اسلام متقدم مثل تركيا لا تستطيع الآن، رغم الاشواط التحديثية الجادة والمتميزة التي قطعتها قياسا بدول المنطقة، أن تقول انها انتهت تماما من "الحقبة النابوليونية"... ولربما كلما اقترب موعد دخولها النهائي الى الاتحاد الاوروبي كلما أمكن وضع موعد لـ"موت" نابوليون "الاسلامي"، أي لانتهاء حقبته...
أما ريتشارد هاس الذي ينطوي مقاله المهم في "الفورين أفيرز" على العديد من الثنايا داخل توقعه الرئيسي بـ"نهاية الحقبة الاميركية" فهو نفسه يضع المدماك الاول لنقض فكرته هذه عبر اعتباره أن هذه النهاية لن تعني انتهاء نفوذ واشنطن في الشرق الاوسط، بل حسب تعبيره "ستستمر الولايات المتحدة في التمتع بالنفوذ أكثر من أي قوة خارجية أخرى" وما سيحصل هو "تقليص نفوذها كما كان عليه".
هذا التخفيف من معنى "النهاية" يسمح بالتساؤل عن معنى "النفوذ" نفسه! فاذا كان ريتشارد هاس يعتبر ان هناك نهاية للشكل العسكري المباشر الذي اتخذه النفوذ الاميركي في المنطقة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والواقع بعد غزو صدام حسين للكويت في ما قرىء يومها أنه "أول تطبيق للنظام الدولي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة"... يكون التوصيف صحيحا، لكن "نهاية حقبة" تدل فورا على انتهاء نفوذ أساسي، في السياسة وفي الاقتصاد، كما حتما في بعض المواقع العسكرية التي ستواصل واشنطن الاحتفاظ بها حتى بعد انسحابها من العراق، هذا اذا انسحبت بالمطلق، ولم تحتفظ بقواعد عسكرية محصنة في... الصحراء!
هناك ملاحظتان على رؤية ريتشارد هاس، وسأضع جانبا هنا عددا من الاعتراضات على طريقة تقسيمه للمراحل في المنطقة.
الملاحظة الاولى: ينتقل هاس في خلاصة مقاله من توقع "نهاية الحقبة" الاميركية" باعتبارها تطورا تاريخيا راهنا الى دعوته بلاده لكي تبني سياسة إبعاد نفسها عن اضطرابات الشرق الاوسط عبر اللجوء الى سياسة تقليل الاعتماد عليها كمصدر للنفط.
خلاصتي هنا هي أن تجربة العراق تؤشر الى تعزيز اتجاه اميركي مستقبلي للكف عن استخدام أداتها العسكرية في الخارج، أكثر مما تعني "حتمية" انتهاء نفوذ بالمعنى الشامل. وهذا ينقلنا الى الملاحظة الثانية:
تاريخيا بدأ النفوذ الاميركي كقوة رئيسية في منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية. هذه مرحلة متواصلة ولم تنته بعد. فقد يكون بامكان مؤرخي نهاية القرن العشرين ان يعتبروا النصف الثاني من الاربعينات، بل السنوات الاولى من الخمسينات حقبة أميركية تواصلت على الأرجح، مع تفاوت في أشكال ديناميتها، الى ما بعد النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين ربما. (في كتابه المهم الجديد: "أمة خطرة" يستعيد روبرت كاغان أول تدخل اميركي لتغيير نظام حكم في المنطقة. كان ذلك عام 1805 في ولاية طرابلس الغرب!)
... فمعيار نفوذ الولايات المتحدة الشرق أوسطي بمضمونه الشامل، ليس شرق أوسطيا... إذا جاز التعبير، بل يتقرر بموقعها العالمي حيال أوروبا والصين والهند وفي مجالات... منطقتنا ليست مؤثرة كثيرا فيها، إن لم تكن معدومة التأثير.