تلاحقت في الأشهر الأخيرة أنباء الاشتباكات بين عناصر الأمن السوري ومن سمّتهم البيانات السورية الرسمية "جند الشام". وتعاظمت مخاوف الناس العاديين والأوساط الديموقراطية من انخراط سوريا في سياسات تقوم على العنف والعنف المضاد، بعد حقبة سيطرت عليها فكرة المصالحة بين أطياف العمل السياسي السوري، الرسمية منها والمعارضة، وبذلت الديموقراطية السورية خلالها جهودا كبيرة لطيّ سياسات قامت على أولوية إسقاط النظام، كانت قد أخذت بها خلال نيف وثلاثة عقود، ولاستبدالها بسياسة تقوم على التصدي المشترك لمشكلات البلاد وأزماتها، وخاصة منها البطالة والفقر والفساد، وسوء استعمال السلطة، وحظر المشاركة في الشأن العام، والتنمية المتوازنة، وتوزيع الدخل الوطني العادل، وترتيب العلاقات مع جيران سوريا على أسس سياسية وقومية تتجاوز حسابات أجهزة الأمن... الخ .
وزاد من قلق السوريين أن الأحداث وقعت في إطار العنف المتزايد في العراق، الذي يقوم به "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، ووسط أزمة سلطة فشلت في إصلاح أحوال سوريا وأحوال نظامها، وتعاظم في الآونة الأخيرة ميلها إلى الحلول الأمنية، ويعتقد سوريون كثيرون أنها تحتاج إلى العنف الإسلامي من اجل تبرير أخطائها وتخليها عن وعودها الإصلاحية، بينما يتزايد التركيز الأميركي على النظام ويزيده توترا وبلبلة بل ويورطه في سياسات قصيرة النَفَس، بطيئة وحافلة بالأخطاء، ستكون لها نتائج أكيدة من الآن فصاعدا.
كما أقلق المواطنين غموض شاب بيانات الأجهزة الرسمية حول "محاربة الإرهاب"، عززه انطباع جدي بأن في الأمر مراميَ خفية لغرض في نفس السلطة، خاصة أن العمليات تلت دوما وعودا إصلاحية أطلقها الرئيس وبدت وكأنها رد من جهة ما يستهدف إبطالها، وأن بعض البيانات تضمن معلومات خاطئة، كالبيان حول معركة جبل قاسيون، الذي تحدث عن عناصر من تنظيم "القاعدة" عملوا حراسا لصدام حسين، ثم تبين أنهم مجرمون جنائيون سرقوا مصارف كثيرة في الأردن، قبل أن ينتقلوا إلى سوريا ويرتكبوا جرائم سلب وقتل ضد من يوجدون آخر الليل في سيارتهم على الجبل.
لم يصدق السوريون كثيرا مما قالته البيانات الرسمية، خشية أن يكون صحيحا من جهة، ولأن ما قدمته السلطات من أدلة وبيّنات كان فقيرا فعجز عن إقناعهم بأن البلد مستهدف بعنف إسلامي متطرف ومسلح يدعم النظام ما يماثله في العراق، يعتقد سوريون كثيرون أنه لن يبادر إلى القيام بعمليات عديمة الجدوى ومتفرقة ضد سوريا، لأنها ستلحق بالتأكيد ضررا فادحا بالجهاد في بلاد الرافدين، حيث يحدث اختراق لا سابقة لنجاحه في أي عمل إسلامي مسلح، من المنطقي أن يعتبره الإسلاميون في كل مكان أولويتهم الأولى خلال الفترة الراهنة، والتي سيعزز نجاحها قوتهم في سوريا نفسها، فليس من المعقول أو المفهوم أن يكون بين أولوياتهم فتح معركة اليوم ضد نظامها، فكيف إذا كان السوريون لا يصدقون أن "جند الشام" تنظيم من تنظيمات "القاعدة"، وأن له حضوراً قوياً في بلدهم، في حين يؤكد فقر بيانات السلطة حول المعارك التي تنشب مع "الجند" ظنونهم جميعها.
رغم ما سبق من ملاحظات، يدين المواطن السوري العنف بغض النظر عن شكله ولونه وحجمه، ويؤكد حق السلطة والمجتمع في مقاومته بجميع الطرق الملائمة. ويؤمن السوري أن سوريا لا تحتاج إلى عنف، بل إلى الهدوء والحوار والتفاعل البنّاء بين أطراف العمل السياسي والمدني، وإلى العقلانية وفهم الآخر والصبر، وإيجاد حلول توافقية لمشكلاتها تعزز روح التسامح لدى مواطنيها والمسؤولية العامة لدى فئاتها وأحزابها، والثقة بالذات وبالقدرة على مواجهة التحديات المختلفة لدى فئات شعبها التي يجب أن تقف كرجل واحد ضد العنف والقمع ومسبباتهما، عسى أن ينفتح، أخيرا، باب الأمل والعقلانية أمامها، وتسير على درب المشاركة والحرية، بعد أن أنهكها السير على سكة الاستبداد والتمييز والفئوية... والعنف.
ثمة، أخيرا، نقطة مهمة ترتكب السلطة فيها خطأ يمكن أن يجر البلاد إلى أزمة قد تتفاقم فتلد فوضى لا تبقي ولا تذر، يراهن عليها خارج يعتبرها فرصته لتحقيق أهدافه السورية بثمن بخس هو: دم السوريين كأفراد واستقلال بلدهم كوطن. هذه النقطة توضحها الأسئلة الآتية: هل يجوز أن تمارس السلطة سياسة أمنية شاملة تطاول جميع أطراف العمل السياسي السوري، حتى بافتراض وجود تنظيم يستهدف البلاد والعباد اسمه "جند الشام"؟ وهل يجوز التخلي عن مبدأ التعاطي السلمي والحواري مع القوى السياسية عامة وقوى المعارضة الحزبية والمدنية خاصة، بحجة وجود تنظيم مسلح يستهدف النظام؟ وهل يجوز إلغاء السياسة لمصلحة الأمن، لمجرد أن ثلة من الإرهابيين تريد شرا بالبلاد؟
ألا يفرض الأمن، بمعناه السياسي والصحيح، التعاون مع القوى الديموقراطية، السياسية والمجتمعية، ومع المجتمع بمكوناته المختلفة، لمواجهة واحتواء إرهاب يمارسه أفراد معزولون هنا أو هناك؟ هل إخماد أنفاس القوى الديموقراطية وأنفاس المجتمع، وإثارة أجواء رعب وقمع بحجة وجود عصابة مسلحة يضر بالأصولية؟ وهل من مصلحة البلد تحويل المعركة بين النظام والعصابة إلى معركة تتطلب قمع كل من لا ينتمون إلى السلطة؟ ألم تبين تجربة الثمانينات أن قمع غير الإسلاميين كان خطأ فادحا، وأن علاج العنف لا يكون بإسكات المعارضة الديموقراطية وإضعافها، بل بالتعاون معها لعزل الأصولية اجتماعيا وسياسيا وتجفيف منابعها وطنيا، والتخلص منها بأقل قدر من العنف والقمع؟
أخيرا، ألم تؤكد تلك التجربة وما ترتب عليها من ذيول أن السياسة أفضل الطرق لمواجهة الأصولية، وأن القمع قد يقضي على تنظيم مسلح، لكنه لا يكفي لتجفيف منابعه الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي ستعيد إنتاجه في أقرب فرصة سياسية، كما تؤكد تجارب كثيرة بينها تجربة سوريا ذاتها؟
من الخطأ إسكات المجتمع بحجة محاربة إرهاب قلة تقول بيانات السلطة إنها معزولة ومنبوذة. ومن غير المعقول والمقبول قمع المواطنين وتحييدهم، إذا كانت القلة الإرهابية تستهدفهم بقدر ما تستهدف السلطة. أخيرا، فإن لمحاربة الإرهاب ألف باب، لكن بابا واحدا يفضي إلى النجاح هو باب الحريات والعمل السياسي الشرعي والتكاملي، المرتكز على قاعدة مجتمعية واسعة، والقادر على إنتاج وحدة وطنية تمد السلطة بشرعية مصدرها قبول الشعب وتمثيلاته السياسية والمدنية بها، لأنها تحترم حقوقه وتلبي مصالحه!