لسبب ما، كانت السلطة في سوريا تعرف تمام المعرفة مضمون تقرير ميليس، حتى قبل أن يبدأ تحقيقه، فقد اتهمت القاضي الدولي بأنه يسيس التحقيق، وفعلت الشيء نفسه مع فيتزجيرالد، المحقق السابق له، وقالت بثقة إنه لم يأت ليكشف عن مرتكبي جريمة اغتيال الحريري، بل جاء ليلصق تهمة قتله بسوريا. لذلك، ليس التحقيق سوى نوع من التمهيد المغطى بالشرعية الدولية لقرارات عقابية ستصدر عن مجلس الأمن، ستعتبر سوريا دولة إرهابية أو داعمة للإرهاب، مهمة ميليس إمداد الدول التي تقف وراءها بالمسوغات الكافية لنقل ضغوطها على دمشق إلى طور نوعي جديد، يستهدف هذه المرة نظامها.
والآن، وقد صدر التقرير، تبرز ملاحظتان على موقف النظام من لجنة التحقيق الدولية وتقريرها هما:
أولاً: إن اللغة التي تستخدم في مواجهة التقرير تصلح لتعبئة الداخل السوري على اللعين، الذي لم يعمل كقاض نزيه بل سيس التحقيق، وكان مكلفاً بتوجيه تهم إلى سوريا تجعل منها دولة إرهابية، تحت ذريعة القيام بتحقيق قانوني/ قضائي. هذه اللغة، التي يمكن أن تحرض الداخل لا تصلح في المعركة الدولية بامتياز، التي بدأت مع التقرير وستستخدم بصورة رئيسية مؤسسات الشرعية الدولية فيها، كما يؤكد ساسة أمريكا. فلا مفر، إذن، من استخدام لغة تناسبها، ليست بالقطع اللغة، التي تطلق شتى أنواع التهم ضد اللجنة، بل اللغة القادرة على إثبات براءة سوريا بأدلة وقرائن وبراهين مقنعة. إن لغة الحجج والبراهين ضرورية للحد من الضرر الهائل الذي سينزل بسوريا كبلد وشعب، ولامتصاص زخم الهجوم العاصف ضدها، الذي بدأت علاماته الأولى ترتسم في سماء العلاقات الدولية، ويرجح ألا يقف العرب خلاله إلى جانب نظامها، إن عجز عن تقديم رد مقنع على أدلة ميليس، أو إذا اقتنعوا بأنه لا شأن لهم بالمأزق الجديد، الذي سيترتب على التقرير، وسيدخل المنطقة في صراع موسع، قد تدفع بنظام دمشق إلى تصعيد مواقفه في لبنان والعراق، وخوض معارك تجعل الابتعاد عنه أسلم من التضامن معه، في حقبة يسعى كل نظام عربي خلالها إلى خطب ود أمريكا على حساب غيره من نظم العرب.
ثانياً: ان فترة طويلة تفصلنا عن اغتيال الحريري ولجنتي التحقيق الدوليتين اللتين تولتا العمل على كشف قتلته والجهة الواقفة وراءهم. هذه الفترة كانت، في الواقع، فترة همود شبه كامل للدبلوماسية السورية، التي تركز أنظارها على المؤدى الداخلي للأحداث الكبرى الجارية في المنطقة والمتصلة باغتيال الحريري وملابساته، وتفضل أن تصب جهدها على وضعها الذاتي. ولو استثنينا زيارة الرئيس بشار الأسد إلى القاهرة، بعد تحقيقات اللجنة في دمشق، لما وجدنا أي جهد رسمي سوري موجه نحو الخارج، بما فيه الخارج العربي، لاعتقاد النظام أنه غير معزول دولياً، وأن له علاقات مميزة مع دول وقوى عظمى، وأن علاقاته مع فرنسا تتحسن. فاتت هذه المدة الطويلة دون أن يقوم النظام بأي عمل من شأنه توضيح موقفه في قضية حساسة كمقتل الحريري، مع أن قادته كرروا بصورة يومية أنه سيكون المتهم الأول فيها.
ليست اللغة الموجهة نحو الداخل، وليس الغياب السياسي شبه التام عن الخارج مجرد مصادفتين. إنهما تعبير عن نهج رسمي لطالما مارسه النظام خلال العام الأخير، يقوم على تعزيز مواقعه داخل سوريا، لأن تقويتها ستقنع الخارج باستحالة إيجاد بديل سوري عنه، وستجبر أمريكا على التوصل إلى تسوية معه، هي وحدها، وليس أي جهد خارجي متصل بتقرير اللجنة واغتيال الحريري، سبيله إلى الاستمرار.
هل قرر النظام التقوقع على ذاته بعد اغتيال الحريري، أم بعد مطالبة أمريكا بإنهاء دوره الإقليمي في العراق ولبنان وفلسطين في منتصف عام ،2003 وإعلانها رفض الدخول في مفاوضات معه بصدد دور بديل عنه؟ إن اغتيال الحريري أسهم في إضعاف وتغيير حتى لا أقول تصفية دور سوريا الإقليمي في لبنان، وكان نقطة انعطاف في علاقة نظامها بالخارج عموماً وأمريكا خصوصاً، قرر بعدها تعزيز وضعه الخارجي بالتقوقع على ذاته في الداخل والعودة إلى سياساته الأمنية، وكان في ما مضى يضبط وضعه الداخلي بقوة سياساته الخارجية. كان هذا رد النظام على تداعيات اغتيال الحريري، التي أقنعته بجدية مطالبة أمريكا برأس دوره الإقليمي، وجعلته يقدم على سحب قواته من لبنان، الذي اعتبره مصدر قوة رئيسياً له ونطاق دفاع “براني” عنه، وحاول تعويض خسارته فيه بالتركيز على الداخل: الساحة التي كثف قدراته فيها، عله يسترجع من خلالها بعض ما كان له من مكانة إقليمية ودور خارجي وتوازن داخلي.
وكان تراجع النظام إلى مواقع وطنية تمكن السوريين من الدفاع عن دولتهم وشعبهم مطلباً رفعته المعارضة الديمقراطية. واليوم، يتضح نمط التراجع الذي قام به، وانتهى بالخروج من لبنان وبإعلان استعداد رسمي للعب دور آخر في العراق وفلسطين، وإلى تقوقع شديد على الذات في الداخل مصحوباً بسياسات أمنية لا لزوم لها ضد الحركة الديمقراطية، ويصير من الضروري أن نتساءل: هل ستحمي سياسة الانكفاء على الذات، والدفاع عن النظام بقواه الأمنية وحدها، الوطن؟ وهل ستجبر الخارج على عقد صفقة معه؟ لقد طالبت المعارضة بتراجع محسوب في الخارج تصحبه علاقات من نمط مختلف مع العرب، ويدعمه نهج جديد في الداخل يتكفل بتعبئة قوى قادرة على صد الأخطار القادمة والمحدقة به، فإذا بالتقوقع الداخلي والحل الأمني يضعفان قدرة النظام على مواصلة سياساته الخارجية في العراق وفلسطين، ويقوضان قدرة المواطن على المشاركة في شؤون بلده، بينما تتصاعد الأخطار وتأخذ أشكالاً عنيفة، ويزداد النظام ضعفاً وعزلة وارتباكاً.
إذا كان التراجع، الذي دعونا إليه، خطوة إلى الوراء اليوم من أجل خطوتين إلى الأمام غداً، فإن التقوقع على الذات، بالشكل الأمني الذي أخذه، سيكون آخر غلطة يتاح للنظام اقترافها.. مبروك.