لا تستهينوا بأهمية وخطورة الكلام. ليس الكلام مجرد ألفاظ ومعانٍ، أو في أحيان كثيرة، ألفاظ بلا معانٍ، تخرج من فم المرء فتتلاشى. وليس شيئا أثيريا يتبخر. إن بعضه ليس أثيريا ولا يتلاشى، بل ينقلب، في حالات التوتر أو الغضب، إلى رصاص ومتفجرات، لذلك قال شاعر حكيم: إن الحرب أولها كلام. الكلام كثيراً ما يأخذ إلى الحرب، ويكون فصلها الأول والعياذ بالله.
في مكتب جوزيف سماحة في “السفير”، كان بعض الأصدقاء من المحررين يقرأون نصا لمواطن سوري نشره موقع “شام برس” ويهزون رؤوسهم، لأن كاتبه المغمور لم يترك لبنانيا إلا وشتمه ووصفه: طلال سلمان، على سبيل المثال، انقلب من صديق لسوريا وقومي كبير إلى صغير وتافه اشتراه آل الحريري، أما إبراهيم الأمين، المحرر في جريدة طلال “السفير” فهو عظيم لا يشترى ولا يباع. سألت بعد القراءة: هل رأى طلال النص، فقال أحد الأصدقاء: إن شاء الله ما يكون قرأه. قلت آسفا: هل يعرف الكاتب، الذي يشتم طلال سلمان، أن إبراهيم يعمل وينشر آراءه المخالفة لرأيه والمعاكسة لآراء ومواقف آل الحريري في “السفير”، من دون أن يسأله طلال أو غيره عمّا يفعل أو ينشر، مع أنه يستطيع منعه بكل بساطة من كتابة ما يكتب؟ وهل هذا القدر من احترام رأي الآخر من صفات أصحاب النفوس الصغيرة؟ لا أقول هذا دفاعا عن طلال سلمان، أقوله لأن ما كتبه الأستاذ السوري يدخل في باب الكلام الذي هو أول الحرب، والذي لا يفيد أحدا، ما دامت قنوات سوريا الحوارية مفتوحة على الأستاذ طلال، وعلى أي لبناني آخر، من جنبلاط، الذي صيره كاتب “الشام برس” عميلاً صهيونياً وخائناً، إلى غسان تويني،’’ الكومبارس التافه’’، وما دامت سوريا ستحاور هؤلاء ذات يوم، ومن الضروري أن تكون مداخلها إليهم نظيفة تجعل من السهل الشروع في ذلك النوع من الكلام، الذي يمس حاجة سوريا ولبنان إليه اليوم، ويأخذ من الحرب إلى التفاهم والعيش المشترك. وإلا قولوا لنا: أليس التفاهم والعيش مع الآخر العربي، بغض النظر عن خلافاتنا معه، غاية كل قومي الهوى عربي النزعة؟ أم أننا لن نعيش ونتفاهم إلا مع الذين يشبهوننا ويتبنون آراءنا على عماها؟ في هذه الحالة، ما معنى الحديث عن القومية والعروبة والعيش المشترك؟
ثمة ظاهرة مؤذية جداً تعاظمت في الأعوام الأخيرة هي كثرة الناطقين باسم سوريا، وكثرة صناع سياساتها الخارجية وعلاقاتها العربية. يكفي أن يسمع أحد ما أن شائعة توهمه أن علاقات سوريا مع فلان من الناس ليست على ما يرام، حتى ينهال عليه بأفظع الشتائم والنعوت، بحجة الدفاع عن سوريا. هل فوضت سوريا أحدا من هؤلاء السادة بالدفاع عنها؟ إذا كانت قد فعلت، فلماذا لا يعين واحد منهم وزيرا للخارجية وآخر وزيرا للدفاع؟ من كلف كاتب “الشام برس” الدفاع عن سوريا بهذه الطريقة ضد رجل كطلال سلمان أمضى عمره يدافع عنها ويضع قلمه وجريدته في خدمة نظامها وسياساتها؟ هل يعلم الكاتب الكبير أن ’’الكومبارس التافه’’ غسان تويني مرحب به في سوريا وعلى أعلى المستويات؟ أخيرا، هل تعتقد حكومة سوريا ألا حل للخلاف مع اللبنانيين، إن كان هناك حقا شيء يستحق الخلاف، بغير لغة من يدعون النطق باسم سوريا، الذين غالبا ما يكونون من المنافقين، الذين يلقون الكلام على عواهنه، من دون أن يفكروا بنتائجه، وبأنه يدمر ما في النفوس من مودة وما في القلوب من صداقة، ويزيد الواقع تعقيدا على تعقيد، ويجرح من يظنون أنفسهم عزيزين على هذه البلاد وأهلها وحكامها؟ الخلاف، على حد علمي، جائز بين البشر، وما يثير الخصام اليوم قد يترك مكانه غدا لما ينشر الحب والتفاهم، فهل يجوز ترك مواقف سوريا تجاه بلد شقيق ورجاله لأقلام بلغ بها انعدام المسؤولية حدا جعلها تعتقد أن هدم هيكل علاقاتنا على رؤوسنا ورؤوس اللبنانيين هو حل لمشكلاتنا المشتركة، رغم أن خصومتنا مع اخوتنا هناك ليست أصلية ولا يمكن أن تكون، وليست باقية ويستحيل أن تدوم؟
يا أصحاب الشأن في هذه البلاد: لا تتركوا كل من هب ودب ينطق باسم سوريا وينحط بسياساتها إلى درك شتائم ما أنزل الله بها من سلطان. هذه شؤون خطيرة في زمن التفكك العربي لا يجوز السماح لصغار الكسبة زج أنوفهم فيها، خاصة وأنهم لا ينطقون باسمهم الشخصي، وأن أحدا لن يصدق أنه ليس باستطاعتكم منعهم من تجاوز الخط المقدس وليس الأحمر الذي هو علاقات بلادنا مع مجالها العربي.
إذا كنتم زعلانين من أحد، قولوا له ذلك مباشرة وبصورة لا لبس فيها، وليخدم قولكم مشتركات البلدين ومصالحهما، ولتحرصوا على تحاشي لغة المهندس العطري، الذي أكد أن السفيرين الأمريكي والفرنسي يحكمان اليوم لبنان، ناسيا مدائح إعلامه والناطقين الرسميين السوريين قبل نيف وشهر للسنيورة، الذي وعدته سوريا بأن تسهل عمله لأنه قومي أصيل، وناسيا كذلك مدائح كبار المسؤولين في دمشق للرئيس لحود، الذي يستبعد أن يكون قد تحول إلى أداة بيد أميركا وفرنسا، أو إلى شخص منزوع الصلاحيات إلى درجة تجعله يسمح بسيطرتهما على بلده. حددوا، يا سادة دمشق، بصراحة ووضوح شروط وظروف عودة علاقاتكم مع لبنان إلى حالها الطبيعي، ولا تسمحوا بدخول أصوات غير مسؤولة على خط العلاقات الاستراتيجية مع بلد عربي هو حقا جزء من سوريا، فتتحمل بلادكم النتائج السيئة، التي ستنجم حتما عن قيام كويتب مغمور بتحويل كاتب كبير كغسان تويني إلى كومبارس تافه، وطلال سلمان إلى عدو لسوريا، فهذا ليس سياسة وليس في مصلحة أحد، إلا إذا قررتم معاداة لبنان واللبنانيين إلى أبد الدهر، وكنتم مصممين على الاستمرار في ارتكاب أخطاء قاتلة ضد بلدكم وأنفسكم.
.. كلمة إلى الاخوة في لبنان: عندكم أنتم أيضا كتاب يديرون لغة حرب باسم لبنان. اتقوا الله في أنفسكم وفي سوريا، ولا تنسوا أنه ليس بوسع أحد إزالة ما صنعه التاريخ وجبلته الحياة بروحها من علاقات البلدين. سوريا تقول لكم بلغة الحب والحنان، وأنتم تقتربون من حدودها: البلد بلدكم. فلتجعلوها كذلك، لأن سوريا باقية وما عداها زائل، تماما كلبنان: الذي يجب أن تبقوه ما هو فعلا: بلد له مكانة خاصة في قلوب السوريين.