احتلت قضية المصالحة الوطنية ولا تزال موقعا مركزيا في النقاش والحراك السياسيين في العالم العربي للسنوات القليلة الماضية. لكنها وصلت في جميع البلدان أيضا إلى طريق مسدود. والسؤال ما الذي حال دون تحقيق مثل هذا الهدف بالرغم من اعتقاد قطاعات كبيرة من الرأي العام العربي بأولوية المصالحة لمواجهة التحديات التي تتعرض لها المجتمعات العربية وبالرغم أيضا من تضافر عوامل داخلية وخارجية كثيرة تشجع على الخروج من الأزمة الخانقة التي لا تزال تهدد بالانفجار في جميع البلدان.
بداية ينبغي القول إن شعار المصالحة الوطنية لا يطرح اليوم في البلدان العربية للتقريب بين فئات اهلية متنازعة وإنما بين السلطات الحاكمة وبقية طبقات الشعب. وهو لا يشير إلى نزاع بالمعنى الدقيق للكلمة بقدر ما يتصدى لنمط من العلاقات الشاذة التي نشأت بين الدولة والمجتمع فجعلت من الأولى متراسا لطبقة حاكمة تحتكر القرار السياسي وتضع يدها على الموارد الوطنية من جهة والشعب الذي همش تماما وأصبح هدفا لعمليات إخضاع شاملة ومستمرة من قبل السلطة من جهة ثانية. لكن هذا النمط من العلاقات يخفي في واقع الأمر حربا خفية يتواجه فيها، في جميع المجتمعات العربية، وعلى درجات مختلفة، أولئك الذين يريدون تحويل الدولة إلى ملكية خاصة ومن خلالها إلى احتكار الموارد الوطنية بالقوة وحرمان الآخرين منها وأولئك الذين يسعون بجميع الوسائل إلى تعميم الفوائد التي تنتجها على أكبر قاعدة اجتماعية ممكنة ويبذلون في سبيل ذلك جهودا جبارة لكسر هذا الاحتكار والدخول في مجتمع الشراكة الوطنية والسيادة الفردية. وهو النزاع الذي يخفي أيضا صراعا حول مفاهيم وتصورات مختلفة ومتناقضة للسلطة وللهوية الاجتماعية والوطنية معا.
من هذا المنظور لا تعني المصالحة الوطنية في الواقع سوى السعي المشترك إلى وضع حد لهذا الاحتكار أو القبول بفتح مفاوضات حول توزيع السلطة والموارد العامة مقابل تنازل الطرف الأضعف في المعادلة عن حقوقه عن الحقبة الماضية وكذلك عن حقه في الثروات التي تحصلت بصورة لا شرعية. فالمصالحة هي البديل المطروح عن الثورة أو عن الانقلاب الذي يمثل آلية انتزاع الحكم بالقوة للدخول إلى ميدان السلطة وطرد المستولين عليها بسلاح القوة نفسه الذي استخدموه ولا يزالون للإبقاء على احتكارهم لها واستملاكهم الشخصي لمواردها.
يعبر بروز فكر المصالحة إذن من دون شك عن تطورين مهمين حصلا في السنوات القليلة الماضية في الوعي السياسي العام أو لدى الرأي العام. التطور الأول يتصل بتنامي الشعور، في موازاة تغير السياقات الإقليمية والدولية، بالغبن الواقع على المجتمع بأكمله والطبقات الشعبية بشكل خاص نتيجة هذه العلاقة غير المتوازنة بين السلطة والمجتمع ويستدعي بالتالي إزالة هذا الغبن كما يشير إلى الاحتجاج الكامن على الوضع القائم. وهو الشعور الذي كان مستحيل الظهور في العقود الماضية بسبب شلل الفكر وتشوش الوعي السياسي الخاضع لضغط الايديولوجيات الشمولية المختلفة. لكن رفض التسليم بالأمر الواقع لا يدفع هنا، وهذا هو التطور الثاني، إلى الثورة ولكنه يترافق بنمو مواز للواقعية والبراغماتية السياسية. فهو يعكس الاقتناع بأن الحلول العنيفة غير مجدية وأنه ليس من الممكن الخروج من المأزق الراهم إلا من خلال القبول بتسوية تقوم على القطع مع الحقبة الماضية بكل ما رافقها من أخطاء ومآسي والنظر في اتجاه المستقبل. إنها تعكس المزاج الاجتماعي والسياسي الجديد للشعوب التي تنزع نحو السلم والحياة الديمقراطية والمشاركة الايجابية. ومن هذه الزاوية لا يبدو لرفض السلطات القائمة الاستجابة لنداء المصالحة الصاعد من وسط معارضتها أي معنى ولا أي منطق.
لكن في ما وراء ما يعكسه هذا الشعار من تراجع وزن الاستراتيجيات الانقلابية والثورية عند الرأي العام والطبقات الوسطى بشكل خاص، يطرح هذا الشعار مسائل أخرى أكثر تعقيدا على السلطات الحاكمة هي التي تجعلها تتردد في الاستجابة له أو الانخراط في مشروع المصالحة. فهو يخفي وراء إرادة البحث عن تسوية عقلانية وواقعية مع الطبقة الحاكمة مشروع هيكلة ضمنية للحقل السياسي نفسه. إنه يعبر عن ولادة فاعل اجتماعي سياسي جديد يقف في مواجهة هذه الطبقة، أي بمهام التصور والتقدير والتقرير والتنفيذ التي تشكل جوهر السلطة، ويطرح بالتالي الاعتراف بمبدأ التعددية السياسية وما تتضمنه من قبول بالنسبية وشرعية الصراع حول البرامج والتوجهات المجتمعية والثقافية. وهذا ما يقود مباشرة إلى إخراج السياسة من مجال التابو والسر المغلق واللامفكر فيه إلى مجال التأمل المتعدد واختلاف وجهات النظر والشفافية والمسؤولية.
وهكذا يعكس مشروع المصالحة الوطنية ولادة حراك سياسي جديد يقود حتما، من خلال ديناميكية الصراع الثنائي بين الحاكم والمحكوم الذي أدرك معنى الحكم ومضمونه، إلى كسر السكون والأحادية القديمة والطويلة اللذين سمحا بإعادة إنتاج السلطة الاحتكارية والانفرادية من دون تغيير لعقود طويلة بقدر ما مكنا الطبقة الحاكمة من الجمع في قبضة واحدة بين السلطة السياسية والاقتصادية والرمزية. فهذا الجمع هو الذي مكن النخب الحاكمة من احتكار التعامل بالشأن العمومي وتحويل المجتمع بأكمله إلى مجموعات مصالح اقتصادية ومهنية مستقلة يقف دورها عند الشأن الخاص. وبقدر ما حرمت المجتمع من تكوين رؤية شمولية أو وطنية تعنى بالمصير العام في ما وراء الانقسامات المهنية حكمت عليه بانعدام التأهيل السياسي وجعلت مصير الوحدة المجتمعية معلق بين يدي الطبقة الدولة وحدها.
فالتعددية التي يقترحها ببساطة، وتحت شعار عفى الله عما مضى، شعار المصالحة الوطنية، هي الدواء الوحيد للأحادية التي يقوم عليها النظام الاتوقراطي العربي ولا يمكن أن يستمر من دونها. ولذلك ليس من المستغرب أن تبوء جميع مشاريع المصالحة الوطنية بالفشل ولا أن ترفض الطبقات الحاكمة العربية النظر بجدية إلى أي دعوة من هذا القبيل وتزدري بشدة أصحابها. فهي لا بد أن ترى فيها محاولة لتفجير تناقضات ونزاعات ولفتح جراحات تعمل المستحيل للتغطية عليها. ومن منطق الحفاظ على الأمن والنظام والاستقرار لا تتردد السلطات العربية في اتهام أصحاب دعوة المصالحة بالتآمر مع القوى الأجنبية لضرب الوحدة الوطنية. فلا يبرر الظلم والاستبداد وانعدام القانون وسوء الأوضاع المعيشية، في نظرها، لأي كان تعرية النظام أمام القوى المتربصة به الداخلية والخارجية. إن دعوة المصالحة الوطنية تظل في نظر السلطات القائمة ذريعة لقلب الأوضاع وضرب الاستقرار. وليس المنادون بها سوى أدوات واعية أو غير واعية في يد استراتيجيات الدول الأجنبية. ومما يزيد من ميل الفئات الحاكمة إلى ازدراء أصحاب المصالحة أن أغلب الداعين لها هم من المثقفين الذين استعادوا وعيهم المدني العمومي والذين يفتقرون أكثر من أي فئات اجتماعية أخرى، إلى الوسائل الضرورية لإحداث التغيير، وهي التي لا يمكن أن تكون في نظر السلطات العربية التي استبطنت احتقار الرأي العام وضمنت شله، سوى وسائل العنف والتحالفات الدولية. هكذا لم يكن مآل مشاريع المصالحة الوطنية في عراق صدام وفي مصر وفي سورية وليبيا والعديد من البلاد العربية الاخرى سوى تفجير أحقاد النظام على المعارضة الوليدة والسعي بجميع الوسائل إلى البطش بها وتجريمها.
تفترض المصالحة الوطنية التفكير بتسويات تفاوضية لمواجهة التحديات والمشاكل الوطنية لا يمكن تحقيقها من دون اعتراف الأطراف المختلفة بوجود بعضها البعض وبشرعية المطالب التي يرفعها. والحال أن الطبقات العربية الحاكمة لا تعتبر نفسها فئات من بين فئات عديدة أخرى ذات مصالح معينة وإنما تتماهي كليا مع المجتمع بقدر ما تطابق بين وجودها ووجود الدولة التي تمثل الشعب. فهي ليست حتى الممثلة الشرعية الوحيدة للشعب ولكنها الشعب ذاته ممثلا بما تجسده هي من القيم الوطنية والاجتماعية والدينية والثقافية. فهي الضامن لوجوده والمؤتمن على مستقبله. ولا يمكن أن تعترف بوجود فريق آخر يعبر عن الشعب أو عن جزء من مصالحه من دون أن تضع هذا التماهي المطلق بين الفئة الحاكمة والشعب والدولة موضع الشك والسؤال. فوجودها كله نابع من تغييب مفهوم الشعب والطبقات والفئات والمصالح والتيارات المتباينة لصالح فرض هذا المفهوم التطابقي الوهمي للحكم والدولة والشعب وتعميمه. ولذلك بينما يريد أنصار المصالحة الوطنية من مشروعهم تأكيد ايجابية تعاملهم مع السلطة ولا يرون فيه سوى مطالب جزئية يمكن إجمالها تحت مفهوم إصلاح النظام، بما يعني تخليهم عن الدعوة لتغييره وبالتالي القبول بالعمل في إطاره وتحت سلطة القائمين على الأمر، تنظر الطبقة الحاكمة إلى أي تنازل مهما كان صغيرا في إطار مفهوم المصالحة هذا على أنه تهديد كلي لوجودها، أي للمنطق الشمولي الذي يحكم هذا الوجود. وهي لا تكف عن اتهام المعارضة بنيتها في تغيير نظام الحكم من وراء المطالبة بإصلاحات جزئية تتضمن الاعتراف بوجود معارضة والحوار أو التفاوض معها.
والواقع إن مبدأ التفاوض والحوار الذي تستدعيه المصالحة هو الذي يثقل على كاهل النخب الحاكمة. فهي مستعدة للقيام بالكثير من الاصلاحات لكن بشرط أن لا تكون مسمية على المعارضة أو مرتبطة بها. بل هي مستعدة أبعد من ذلك للاعتراف بالمعارضة كممثلة لبعض المصالح الأصنافية الخاصة، لكن ليس كأطراف سياسية، أي ليس كحاملة لوجهة نظر سياسية ولمشروع مجتمعي يعنى بالمصير العام وبالتالي كمنافس سياسي. ولهذا فهي تكاد تعلن عن استعدادها لتنفيذ مطالب المعارضة جميعا في الاصلاح إذا قبلت هذه الأخيرة التخلي عن تسمية نفسها معارضة وسحبت مشروعها السياسي من التداول وقبلت بالعمل تحت راية النظام وبمواكبته. ولهذا يصبح الهجوم على المعارضة وتفتيتها والهزء منها هو مشروع الاصلاح الوحيد الذي يحظى بأمل التطبيق.
ليس هناك إصلاح ولا أمل في أي إصلاح أو تطوير أو تحديث في أي بلد عربي أو غير عربي من دون الاعتراف بتعدد المصالح المجتمعية وتعددية تمثيلها من قبل القوى السياسية في الوقت نفسه، أي من دون تحطيم هذا التصور الشمولي للمطابقة الخرافية بين السلطة والدولة والمجتمع، وهو التصور الذي يغلق النقاش والحوار والفهم ويلغي التاريخ أو يجمده عند أقدام النخبة الحاكمة. وليس لمشروع الاصلاح بداية أخرى سوى وضع حد لأحادية الحكم وفتح السياسة على المجتمع والاعتراف بحق الجميع في المشاركة المتساوية في التصور والتقدير والتقرير والتنفيذ في كل ما يتعلق بالمصير العام. وهذا ما يتناقض كليا مع مفهوم الاصلاح الذي يبدو أن الأنظمة العربية قد أخذت به وأقرته أخيرا، والقائم على رفض الحقوق السياسية والقبول بمبدأ تقاسم الثروة والسلطة الجزئي مع النخب المهمشة أو الخارجية، الاقتصادية والتقنوقراطية. لكن هذا المبدأ التقاسمي هو في الواقع الأساس العميق لانحرافات السلطة الخطيرة في الماضي والحاضر بقدر ما هو الأصل والمنبع السياسي لكل أشكال الفساد. والتمسك به يعني أننا لا نزال لم نخرج بعد من عصر"السلبطة" والجاهلية الوطنية والسياسية.