في ندوة تقييم حركات التغيير الديمقراطي في البلاد العربية، التي نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان (19-20 مايو 07)، لم يكن الموضوع، كما هو الحال غالبا، تحليل عطالة الأنظمة العربية والعوائق السياسية والاجتماعية والمعنوية التي تضعها في وجه التغيير، مما أصبح بديهة بالنسبة لغالبية الرأي العام العربي والأجنبي، وإنما تحليل عطالة قوى التغيير العربية والبحث عن الأسباب التي تمنعها من أن تكون أداة فعالة في الضغط من أجل الاصلاح. والواقع أن جميع الناشطين العرب يشعرون اليوم بوجود حاجة ملحة لمراجعة ذاتية تشمل خطط قوى التغيير الديمقراطي العربية وشعاراتها وأساليب عملها، بعد المرحلة العاصفة التي شهدتها الحياة السياسية في السنوات القليلة الماضية. فهناك شعور عميق بأن الآمال الكبيرة التي عقدت على هذه الحقبة من أجل الخروج من حالة الجمود، وبعث جدلية سياسية واجتماعية تعيد الشعب إلى الحياة العامة، وتؤسس لحياة سياسة ومدنية صحية وسليمة، بعد مرحلة طويلة من سيطرة السلطة الأبوية والتسلطية المفروضة من فوق، قد ضاعت جميعا، مخلفة واءها إحباطا عميقا لدى قوى التغيير وقطاعات الرأي العام الواسعة، التي راهنت عليها، حتى لو أنها لم تتجرأ على الانخراط فيها أو المشاركة بنشاطاتها.
في سياق هذا الاحباط، تدفع المراجعة النظرية البعض إلى العودة إلى نظريات قديمة كادت السنوات الماضية تقضي عليها وتتجاوزها. منها نظرية الاستثناء العربي والاسلامي الذي يسعى إلى البحث عن مصاعب الانتقال الديمقراطي في بنية الثقافة والبنية الثقافية الانتروبولوجية العربية التي تشجع على السلوك الجماعوي والشعبوي ضد فكرة الفردية. ومنها من يستعيد نظرية الأثر السلبي للدين الاسلامي، أو بالأحرى لسيطرة الفكر الديني عموما على تصور منظومة قيم ومباديء وأخلاقيات مدنية تؤسس للمواطنية. ومنها ما يشير إلى عمق البنى العصبوية القبلية والطائفية والمذهبية التي تسمم السياسة العربية. وتقدم هذه السمات الخاصة بالمجتمعات العربية كما يعتقد البعض تفسيرا للممانعة التي يظهرها الرأي العام تجاه أفكار الديمقراطية وما ترتبط بها من قيم الحرية والمساواة والعلمانية، وبالتالي لإخفاق حركات التغيير الديمقراطية في خرق جدران العزلة التي تحيط بها والتفاعل مع القوى الشعبية.
لا ينبغي بالتاكيد تجاهل هذه العوامل ولا صرف النظر عن مفعولها السلبي في تطور قوى الديمقراطية. لكنها ليست هي التي تفسر ضعف قوى التغيير الديمقراطي، ولا العطالة التي تميز الحياة السياسية لعامة الشعوب في البلاد العربية. بل يمكن القول إن هذه السمات ليست هي ذاتها إلا ثمرة اليأس والقنوط الناجمين عن الشعور الصحيح بانحسار فرص التغيير، أو على الأقل بعدم نجاح القوى الديمقراطية في بلورة مشروع واضح ومعقول، أي مقنع، للتغيير الديمقراطي في المدى المنظور. وأخشى أن يكون الخط الذي اتبعته هذه القوى في السنوات العاصفة الماضية والممارسات التي ارتبطت به قد ساهم في إضعاف صدقيتها وبالتالي في تعزيز عزلتها، أكثر مما عمل على تعزيز صدقيتها وإبراز ملامح المشروع الديمقراطي الذي يتوقف على بلورته ووضوحه ولاء الرأي العام أو أغلبه لها.
فقد اوحى تضافر عوامل داخلية، مرتبطة بصعود جيل جديد من الحكام الشباب الحائزين على ثقافة حديثة، في العديد من البلدان العربية، وخارجية، مرتبطة بتغيير البيئة الايديولوجية الدولية، مع تنامي ظاهرة التواصل بين الثقافات وتقدم فلسفة الليبرالية الجديدة على غيرها، وإقليمية، مرتبطة بتبدل واضح في استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتبنيها سياسة كسر الاحتكار المؤبد للسلطة الذي فرضته النخب الحاكمة على المجتمعات، على أمل الحصول على بعض الشعبية لمشاريع سيطرتها الإقليمية، أقول أوحى كل ذلك بأن هناك نافذة فرص حقيقية للانتقال إلى حقبة جديدة من الانفراج السياسي الداخلي إن لم يكن للدخول فعليا في مرحلة انتقال نحو الديمقراطية.
والحال لم يظهر الجيل الجديد من الزعماء قدرا أكبر من التفهم للمشاكل الاجتماعية، ولم تساعده ثقافته الحديثة في التعامل بصورة أكثر عقلانية مع التحديات الجديدة، ولا حثته على التفاعل باحترام أكبر مع قطاعات الرأي العام أو أصحاب الآراء المغايرة. ولم تساهم الضغوط الأمريكية القوية على دفع النظم التسلطية التي عاشت عقودا طويلة تحت عباءتها وفي ظلها إلى فتح فرص أفضل لتحولات ديمقراطية أو لانفراجات سياسية. وبالمثل لم تقدم المناخات الليبرالية العالمية السائدة حوافز اكبر لتكيف النخب الحاكمة مع المعايير الدولية والمغامرة بتوسيع هامش المشاركة الشعبية واحترام الحد الأدنى من حكم القانون وحقوق الانسان.
ما حصل كان العكس تماما. فقد كان جيل الشباب بحاجة إلى أن يكشر عن أنيابه بشكل أكبر حتى يضمن طاعة شعبه وخضوعه، ويردع أيضا النخب المعارضة الصاعدة في إطار نظم تعاني من تصدعات حقيقية وتتعرض إلى تحديات متزايدة. وأعطت الضغوط الأمريكية القوية التي جاءت في رداء الحرب العالمية ضد الارهاب مبررات أكبر لجميع الأنظمة القائمة لتجاوز حكم القانون وممارسة العنف ضد قوى المعارضة والاحتجاج، والعمل بجيمع الوسائل لتثبيت الحكم وإغلاق النظم كما لم تكن مغلقة في أي حقبة سابقة. وفي هذه الظروف كان من الطبيعي أن تترافق العودة إلى تبني نموذج اقتصاد السوق بشكل واضح مع بروز ظاهرة تحالف سلطة رجال الدولة مع سلطة رجال المال، وتكوين شبكات من المصالح الاحتكارية الشاملة، هي أقرب إلى نمط اقتصاد المافيات الدولية منها إلى نمط اقتصاد السوق الذي تتحكم به طبقات رأسمالية منتجة مكونة من أصحاب مشاريع حرة يشكل الحفاظ على حكم القانون واحترام الحريات السياسية شرطا ضروريا لضمان المنافسة النزيهة بين أفرادها وتأمين وحدتها في الوقت نفسه.
هكذا لم يكن التفاؤل الشديد الذي ولد من تضافر هذه العوامل مبررا بالفعل. وما بدا لفترة وكأنه فرصة تاريخية للتحول الديمقراطي تحول إلى كابوس كان أول ضحاياه قوى التغيير الديمقراطي ذاته. فقد خلق هذا التفاؤل أوهاما كبيرة لدى النخب الصاعدة والجمهور معا. وعمل تضخم التطلعات والتوقعات في التغيير على تجاهل الحقائق الموضوعية الصلبة لصالح التأكيد على العوامل الذاتية. وقاد الاعتقاد بوجود فرصة للتغيير السريع إلى الحلم في ما يشبه الانقلابات المدنية، وهو ما عبرت عنه بعض القوى بدعوتها إلى العصيان العام، أو مراهنتها على تحويل الاعتصامات المحدودة إلى ثورة مدنية على شاكلة ما حصل في بعض بلدان أوربة الشرقية. وكان ذلك على حساب بلورة استراتيجية حقيقية تأخذ بالاعتبار التشوهات والنقائص والتحديات الحقيقية التي تعاني منها مشاريع الديمقراطية العربية. وأدى التمسك بأجندة التحويل السريع إلى المبالغة في تقدير أثر الضغوط الخارجية والظروف الطارئة، على حساب الاستثمار الطويل في بناء قوى التغيير والتحويل الديمقراطي الذاتية. وكانت النتيجة درجة أكبر من الانفصال بين الفكر والواقع، وبين حركة النخبة الجديدة الديمقراطية والجماهير، وتقديما للأحلام والرغبات الذاتية على الحسابات العقلانية والحقائق الموضوعية.
وفي اعتقادي، لن تستطيع قوى الديمقراطية العربية الخروج من حالة الاحباط التي تعيشها اليوم، ولا استعادة ثقة الرأي العام والربط من جديد مع قطاعاته الأكثر وعيا واستعدادا للاستثمار في العمل الوطني، وبالتالي استعادة روح المبادرة السياسية، من دون النجاح في معالجة آثار هذه النكسة والعودة إلى منطق العمل الطويل القائم على بلورة أجندة مستقلة عن الظروف الخارجية، من دون أن تتجاهلها بالطبع، وتركيز الجهود على بناء قوى التحويل الذاتية. وهو ما يشكل تحديات كبيرة ومعادلات ليس لدينا في العديد من البلدان العربية حلولا جاهزة لها بالتاكيد.