المجتمع ليس كتلة أفراد مجتمعين بفعل الجغرافيا، هو أكثر من ذلك بكثير. إنه نظام يوحد هؤلاء قبل أن تجمعهم الجغرافيا. ويعني النظام استناد العلاقات بين الأفراد والمجموعات إلى أسس وقواعد معروفة وثابتة ومقبولة وشرعية تقوم على أساسها مؤسسات ثابتة، تتجاوز النوايا والأمزجة الشخصية، وتضمن اتساق أفعال أفراده وتماسكهم وعملهم المشترك. وهو ما يضع للنظام الاجتماعي قيماً مرجعية ومعايير للعمل وأهدافاً توجه الأفراد والفاعلين ورموزاً توحد مشاعرهم وتوقعاتهم، يشكل تمثلها واستبطانها والمشاركة فيها اندماجاً في المجتمع وحياة فيه.
ويبدو لي أن ما تعاني منه مجتمعاتنا العربية اليوم، وفي مشرقنا خاصة، هو غياب هذا المشروع المجتمعي الناظم. فهي تعيش حالة من الفوضى الشاملة، أي اللانظام. وأصل هذا اللانظام وتلك الفوضى، في القيم والقوانين وقواعد العمل، هو انفراط نموذج العقد التنظيمي للدولة الحديثة. فالنظام الذي عرفناه في القرنين الماضيين قام على تبني مشروع الدولة الحديثة، بما يضمره من مؤسسات وقواعد عمل وقيم ومعايير وغايات خاصة، ومن مهام اجتماعية لم تكن تعرفها الدول القديمة. وهو نموذج مشروط بقيام السلطة على أسس قانونية، وفي مرحلة أبعد، على أسس المشاركة الفردية لجميع الأعضاء في هيئة سياسية واحدة.
لم نعرف نحن الدولة بالمعنى الحديث. للأسف نخلطها بمعنى السلطة المركزية التي تمد نفوذها فوق رقعة جغرافية موحدة لا يجمع بين سكانها بالضرورة جامع. وهو ما كانت تمثله دولة السلطنة والإمبراطورية التي تشير إلى قيام سلطة مركزية، تتحكم من خلال أجهزتها بالمجتمع من فوق وتعمل على إخضاعه لحاجات بناء السلطة الأرستقراطية وخدمة أهدافها الخاصة. السلطنة لا تهتم بالناس. وليس لها مشروع خاص بتحضيرهم وترقية شروط حياتهم. هذا نتاج الدولة الحديثة والفلسفة السياسية التي استندت إليها، والفكرة التي كونتها عن نفسها كدولة لانعتاق الفرد، وتحرير الجماعة. لكن الدولة الحديثة نشأت في سياق التفاعل مع الغرب، سواء عبر اكتساب القيم السياسية والفلسفة الحديثة، كما حصل في عصر النهضة، أو تأثراً بنموذج دولة القانون والمؤسسات التي تعرفت عليها من خلال الإدارة الاستعمارية.
ليس هذا بالأمر المستهجن ولا الغريب، ولكنه سنة التطور في جميع مراحل التاريخ. المكتسبات الحضارية تنتقل بالتفاعل بين الشعوب والمجتمعات. فشعوب أوروبا لم تصل إلى الابداعات السياسية في الوقت نفسه وبشروطها الخاصة أيضاً.
ولم يكن هناك ما يمنع تطور مفهوم الدولة الحديثة وترسيخه في تربتنا المحلية ونجاحه، لا في ثقافتنا الماضية ولا في ديننا. لكن مشروع الدولة الحديثة في المنطقة، انهار وتركنا في العراء لسببين:
السيطرة العميقة والممتدة والكلية للغرب على المنطقة، وحرمان الدولة المستديم من عنصر السيادة الذي هو روحها المحرك، وقاعدة تطورها كمؤسسة مستقلة ذات فكرة عن نفسها، مما يقتل روح الدولة. وقد تأتت تلك الوضعية الحساسة للشرق الاوسط من نواح جيوغرافية وسياسية واقتصادية وأخلاقية... مرتبطة بالالتزام الغربي بحل المسألة اليهودية في المنطقة العربية وعلى حسابها! إضافة إلى خيانة النخب الوطنية وقبولها العمل في خدمة الدول الكبرى واستمرائها التسلط والاستبداد بعد ذلك، ما حرم الدولة من مكوناتها الحقيقية وقوض فكرتها. ولم تعد دولة سيدة قادرة على أن تكون إطاراً للتعبير عن إرادة جماعية حرة، وعلى تطبيق برنامج يرتقي بشروط الحياة المادية والمعنوية والأخلاقية، لمواطنيها. لقد بقيت، كما ذكرت في مكان آخر، وكالة سياسية أجنبية.
أما نظام شبه الدولة أو الوكالة الأجنبية، فيعيش على قواعد ثلاث: تحالف النخب المحلية والدول الكبرى، على حساب الشعوب ولتهميشها واستبعادها من السياسة. التعسف بدل حكم القانون. وروابط الولاء والتبعية بدل معايير الكفاءة والفاعلية المؤسسية.
لذلك عاد بنا تقويض الدولة إلى نموذج السلطنة أو السلطة المركزية القائمة على القوة والشوكة. وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يعود المجتمع إلى نماذج تنظيمه الذاتي التقليدية: الدينية والعشائرية والعائلية والقروية. مع فارق أن الدول الراهنة، ذات موارد وأدوات وإمكانيات استثنائية لا يمكن مقارنتها بما كانت تملكه الدولة التقليدية. وهي تستخدم كل ذلك في سبيل احتواء التنظيم الاجتماعي الأهلي، واختراق المجتمع وتحطيمه.
هكذا أضعنا مفهوم الدولة الحديثة، أي دولة المواطنين، ولم تعد لدينا القدرة على إنتاج التنظيمات الأهلية التقليدية من فرق العيارين والطرق الصوفية والهيئات الدينية المستقلة، التي كانت تساعد المجتمعات على تنظيم شؤونها الخاصة في ظل الدولة السلطانية. لم تعد لدينا دولة مؤسسات قانونية، ولا دولة ولاءات أهلية تقليدية، أصبحنا من دون نموذج تنظيمي فاعل، من دون نظام.
ولا يمكن الخروج من أي أزمة، من الأزمات التي نواجهها في التنمية والاستقلال والأمن والإصلاح ومكافحة الفساد والتربية والتعليم والبحث والإنتاج والتحرير... دون الخروج من محنة الانفراط الاجتماعي أو الفوضى المدنية.
لا يمكن لنموذج الإفتاء أن يقدم مخرجاً لأزمة الدولة، لأن الفتوى، بعكس القانون، خاضعة باستمرار لاجتهاد الأفراد والمجتمعات والجماعات، وتأويلهم حسب مستوى ثقافتهم وبيئتهم. هو ليس قانوناً ولا يمكن أن يكون بديلاً للقانون. والبرهان هو الفوضى الناجمة عن سيطرة الميليشيات الاسلامية حيثما حصل ذلك في دائرة الحياة الاجتماعية، بل تعميم الصراع بين الفرق وداخل الفرقة المذهبية نفسها. وليس هناك دولة أيديولوجية يمكن أن تكون في الوقت نفسه قانونية، حتى لو كانت هذه الأيديولوجية علمانية. الدولة إما أن تكون قانونية تحترم جميع أفرادها وتعاملهم بالتساوي وتضمن حقوقهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والدينية، أو أن تكون سلطنة تخدم القائمين على السلطة فيها، كما هو الحال اليوم في أغلب الدول العربية، أو ميليشيات إسلامية أو غير إسلامية.
الذين يغذون وهم الدولة القائمة على الشريعة، أي على الفتوى الدينية، في مواجهة الدولة الحديثة، يغشون الناس ويحرمونهم فرصة التفكير في المستقبل، وفي بناء النظم والمؤسسات الاجتماعية القادرة على إعادة النظام والأمن والسلام والتعاون وحكم القانون إلى المجتمعات. فالفتوى موجهة للأفراد والمجتمعات لتوجيه ممارستهم وتنظيم سلوكهم الديني والاجتماعي الخاص، والقانون للدولة، أي للمؤسسات، سواء أكان ذلك لبنائها أو لضبط نشاطها، وبالتالي ضمان المصالح العامة.
وبالمثل، لا يمكن أن تشكل القومية مرجعية تنظيمية، لأنها هي نفسها بحاجة للدولة الحديثة حتى توجد. فهي لا تأتي إلا في عربة هذه الدولة وبموازاتها.
المخرج الوحيد هو في دولة القانون، في إعادة بناء الدولة والمؤسسات الخاضعة لقواعد عمل ومعايير سلوك ثابتة وموضوعية لا ترتبط بمزاج الأفراد واجتهاداتهم الخاصة، بعد تجربة الضياع المرير.
وما لم يحصل ذلك، سيزداد التفكك والعنف والاقتتال الداخلي والتراجع الاستراتيجي والتدخل الأجنبي والانهيار والفقر والموت. فالشعوب التي لا تعرف كيف تنظم صفوفها على أسس ثابتة وواضحة ومقبولة أو مشروعة، لا تنجح في جمع جهودها، ولا في توحيد إرادة أبنائها، ولا تستطيع أن تحقق أي إنجاز.