يحتفل العالم في هذه الأيام بحدث قض مضاجعه منذ أن أُعلن عنه، وهو احتلال أميركا للعراق منذ شهور مديدة. والناس المشاركون في هذا الاحتفال، مثقفون وباحثون وسياسيون ومدافعون عن حقوق الإنسان، خصوصاً في الولايات المتحدة، يتساءلون بدهشة مريرة ولاذعة: لماذا حدث ما حدث؟ لماذا احتل الأميركيون وحلفاؤهم العراق؟ ولماذا هم موجودون هناك حتى الآن؟ إن هذا السؤال المركب يتجه نحو القوة الأكثر خطراً في عصرنا، فهل تمثل هذه القوة حالة لا يمكن أن توجد، إلا إذا وُجدت قوة أخرى مناهضة لها حقاً أو افتراضاً؟
هنا نضع يدنا على فكرة طريفة بقدر ما هي خطيرة؛ هي: أن الولايات المتحدة، على قوتها الكونية القاهرة، تظل بحاجة إلى وجود "قوة مناوئة" لها. وطرافة ذلك تقوم على أن تلك القوة وإن لم تكن موجودة فعلاً، فإن الولايات المتحدة هي التي ستقوم حينذاك بإيجادها. مرة أخرى لماذا؟ لماذا هذا الإصرار على القيام بلعبة كونية يُعتقد أنها ستكون بمثابة تسويغ لهيمنة القوة الأولى، الأميركية؟
لقد تفكك الاتحاد السوفييتي، وسقط جدار برلين، وكان ذلك بداية لمرحلة جديدة تمثل هدوءاً للولايات المتحدة واستفراداً لهيمنتها الكونية. وكان من المثير للكثير من الأوساط الثقافية والسياسية والحقوقية، أن تحرّض الإدارة الأميركية على فتح حقول جديدة للصراع المسلح، دون مسوغات قانونية دولية، فكان العراق مسرحاً جديداً لذلك الصراع بعد أفغانستان. ولعل توقُّف مطامع الإدارة المذكورة عند هذا الحد يأتي من أنها - كما يرى جورج غالاوي - "لم تستطع حتى الآن أن تبتلع العراق، فكيف بسوريا أيضاً؟". ويبقى السؤال إياه قائماً: لماذا الرغبة الحثيثة الدائمة لدى الولايات المتحدة في "التحرّش" بالعالم؟ وهل يتحدر ذلك من "طبع فطري" مُستحكم في شخصيات قادتها؟ وبتعبير آخر، هل الشرّ من طباع هؤلاء؟ لقد قدم تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي من الأدلّة ما يكفي لرفض نظرية "الإنسان الشرير بالفطرة". ومن ثم، يتعين على الباحثين أن يوجهوا أنظارهم نحو ملفّات أخرى يمكن أن تضيء الموقف. ولقد نبّه - في هذا السياق- "جاك أتالي" إلى ضرورة النظر فيما توقف آخرون عند حدوده، فكتب مُعلنا: "أن مشكلة الولايات المتحدة الأميركية اليوم أنها شرطي بلا لصوص، ومن الصعب أن يبقى الشرطي من دون لصوص، لذلك لابد لها من أن تُوجِِد اللصوص". ويزيد الأمر غرابة أن يتبين الباحث أن الولايات المتحدة عاجزة عن تمويل "الحروب الملفقة"، التي تدعو إلى إشعالها مع "لصوص- أعداء" تشارك هي في إنتاجهم. وهذا ما أفصح عنه أحد المسؤولين الأميركيين السابقين، وهو "آرثر شليزنفر" مستشار الرئيس الأميركي السابق كينيدي، عندما قال: "إن وضع الولايات غريب فعلاً، فهي قوة عسكرية عظمى، ولكنها عاجزة عن تحمل تكاليف حروبها، فكيف يمكن، والحال كذلك، أن يكون لها مستقبل كقوة عظمى؟ لا! لسنا قادرين على التحكم في العالم".
إن المسألة، كما تتضح، تشير إلى البحث عن مسالك أخرى، لعلها تقود إلى الإشكال الكبير في ذلك. ها هنا، نواجه الأمرين التاليين بوصفهما عاملين يقفان وراء الإشكال المذكور. يقوم الأول على رأي ميشال بوغنون، على ما يسميه "ثنائية الأيديولوجيا"، وتتحدد هذه على النحو التالي: أنموذجية شبه صوفية غازية من جهة، ومن الجهة الثانية، محو البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لكل كيان غير أميركي، وذلك بتحرير السبل التجارية. وبرأي ميشال بوغنون ثانية، كان رأي بنجامين فرانكلين، بدوره ومن حيث الأساس، "أن الولايات المتحدة ستكون مولّدة لمجتمع عالمي، فالمؤسسات والعادات والمبادئ الأميركية مخصصة للتطبيق في كل مكان، ولمحو ما بين البشر من اختلاف أينما كانوا". ويعلق موردان على ذلك بالقول: "مع هذه الوظيفة النموذجية الفريدة، تلازمت ضرورة التوسع الأرضي".
أما الأمر الثاني فيُفصح عن نفسه في أن المجتمع الأميركي المأزوم اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وعرقياً، يبحث قادته عن حلول له من موقع "نظرية التعامل مع الأزمات" على نحو لا ينهي هذه الأخيرة إلا بإنتاج مزيد آخر منها.
إن وجود أو إيجاد أعداء خارجيين للولايات المتحدة تُناط به وظيفتان اثنتان: الهجوم على العالم في سبيل "أمركته"، وتهدئة وترويض الداخل الأميركي الملتهب باسم "مصالح قومية عليا" مهدّدة من الخارج. من هنا، جاء احتلال العراق بمسوّغ أنه يملك أسلحة دمار شامل "غير موجودة"، أو بهدف دمقطرته بالعصا!