تعاظمت أحداث ’’الشغب’’ الباريسية الأخيرة، وكادت تصل إلى مرحلة الصدام بين الشرطة و’’المشاغبين’’، وهذا الوضع بقدر ما يزداد التهاباً، فإنه يفصح شيئاً فشيئاً عن ظاهرة هي بمثابة تعبير عميق الدلالة عن الأفق المسدود الذي ينتصب خصوصاً في أوجه القادمين من خارج القارة الأوروبية إليها• ويمكن وضع اليد على عدة مرجعيات لهذه الظاهرة، تتصدرها اثنتان كبيرتان حاسمتان، أولاهما تقوم على إجابة السؤال التالي: لماذا الهجرة من ’’العالم الثالث’’، أو الرابع، إلى أوروبا وأميركا، ومَن هم الذين يهاجرون إلى هناك؟ أما المرجعية الثانية فسؤالها هو: ألا تحتمل دول المهجر تلك الدعوة، ومن ثم، هل يأتي المهاجرون إلى تلك الدول دون سابق إعلام أو إنذار؟
وإذا كانت أسباب الهجرات معروفة بشكل عام، فإن هناك نمطين من الهجرة كلاهما ذو حضور كثيف بل متعاظم عمقاً وسطحاً في العالم العربي: إنهما الهجرة ’’إلى السماء’’، والهجرة إلى ’’أمام أبواب السفارات الأجنبية’’؛ الأولى حركة يسعى أصحابها إلى الوصول إلى أجوبة وحلول لما يؤرقهم ويُلح عليهم في مجمل حياتهم، أما النمط الثاني من الهجرة فيتجسد في حالة طريفة تقوم على أن الغرب عموماً قُدّم بوصفه حقلاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ربما يتماهى مع ’’الفردوس’’، وبمقتضى ذلك، فإن ما يفتقده المواطنون العرب في بلدانهم من كرامة وكفاية مادية، يجدونه هناك، فيما وراء البحار• ولذلك، فهم يكافحون من أجل ’’العبور العظيم’’ الذي يبدأ بالاصطفاف أمام السفارات الأجنبية، وينتهي في لندن أو بروكسل أو واشنطن أو برلين أو باريس أو مدريد• والحق أن مثل هذه الآفاق كانت قد وُجدت في سنوات منصرمة، حين كانت الدولة الأوروبية تمر بمرحلة من الازدهار جعلتها تظهر بمثابة ’’دولة رعاية’’، وكان ذلك في سنّي ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما أوجد حالة من البحبوحة العامة في أوساط واسعة من الطبقات المتوسطة والدنيا• لكن ذلك أخذ ينقشع بقوة، لصالح تقاطب ملحوظ بين الأعلى والأدنى المجتمعيَّين، وعلى نحو متوازٍ مع تنصل الدولة من وظائفها، أو إقصائها من هذه الأخيرة•
لقد بدأت أزمة بنيوية تخترق المجتمع الغربي الرأسمالي، لتضع الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا أمام آفاق من البؤس الاقتصادي والتهميش السياسي والتجهيل الثقافي والإيديولوجي، وهذا ما أصبح أكثر حضوراً الآن، خصوصاً مع ولادة النظام العالمي الجديد، الذي يوغل في اتجاه التفاوت بين الفئات والوحدات والطبقات المجتمعية•
في تلك الوضعية المعقدة، أخذت تتعاظم احتمالات القلق والتململ والتحرك في الأوساط الاجتماعية المتضررة والواقعة تحت وطأة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من طرف، كما راحت -من طرف آخر- أطراف من تلك الأوساط تبحث عن بواعث بؤسها وتهميشها وتجهيلها في جموع المهاجرين إلى بلدانها من مناطق ’’ملوّنة’’ تقع في ’’الجنوب’’• وقد تكرست هذه الرؤية عبر نمط من الأيديولوجيا أنتجه أصحاب المصالح الكبرى هناك، وساهم في إنتاجه أولئك الذين يعيشون على ’’الحافة’’ في المجتمعات الغربية• وهؤلاء الأخيرون راحوا -تحت تأثير تلك الإيديولوجيا والمدافعين عنها- يعتقدون أن افتقادهم لحقوقهم خطوة فخطوة، إنما يتأتى من ’’المهاجرين الغرباء’’ الذين ينافسونهم في اللقمة، حتى لو أصبحوا يحملون جنسية البلد الذي يعيشون فيه أولاً، ومن تقاعس النظم السياسية المتآكلة والتي هي بحاجة إلى نفضٍ ’’باتجاه اليمين’’ الفاشي خصوصا•
إن ’’أعمال الشغب’’ التي قام بها بشر مهمشون سياسياً وبائسون اقتصادياً ومجهّلون ثقافياً وإيديولوجياً في ’’بلد المنشأ’’ و’’البلد المُكتسَب’’، إنما هي تعبير فظيع وهائل عن النظام الاجتماعي الدولي الذي أخذ يعيش خللاً غير مسبوق• ولذلك، فهي -أي الأعمال المذكورة- إنما تعبر عن أن أصحابها يعيشون أمام واحدٍ من خيارين اثنين: أن يتابعوا ’’هجرتهم’’ ولكن إلى الموت، أو أن يسهموا في إعادة بناء العالم المهدور، على قواعد العدل والتوازن والحرية والمساواة••!