منذ أسبوعين، قدمنا محاضرة في بلدة تقع على كتف مدينة "المعرة"، مدينة الشاعر والمفكر الكبير أبي العلاء المعري، وكانت بعنوان: النظام الدولي الجديد بين الأصولية والعلمانية. والأمر الذي لفت جمعاً من الحضور تمثل في إدراك أهمية الحوار العقلاني الديمقراطي، الذي يمكّن من "اكتشاف" ما يمكن الإجابة عنه وما لا يمكن، في سياق التدقيق في جزئيات ومعطيات تبدو عويصة أو مغلقة، بقدر معين.
والحق، إن اللقاء مع جمهور المحاضرة بدا -في طرف منهجي منه- كأنه محاولات للتدرّب على "التفكير العلمي" حتى في أكثر المعضلات، التي يملكها من ذلك النمط الشديد الحساسية والتعقيد، وقد لاحظت فئة من أولئك، بشيء من الغبطة، أن بعض ما طُرح من تلك المعضلات، مختلف في معانيه ودلالاته عمّا علموه ودرجوا عليه، وكان ذلك بمثابة "اكتشاف" أضعف من الاستقطاب بين التوجهات الأيديولوجية خصوصاً بين الإسلاميين وذوي الآراء المدنية الديمقراطية، من جهة، وأظهر -من طرف آخر- أهمية الحوار القائم على الندّية والاحترام المتبادل وعدم التبرّم من بذل الجهد باتجاه الموضوعية، لكن ذلك أظهر كذلك، بكيفية خاصة، أهمية الحرية في استيلاد الجديد لدى كل أطراف الحوار.
وقد توقف الكثير من الحضور عند الفكرة، التي طرحناها مع التأكيد على أهميتها بل خطورتها في تحديد "الحامل الثقافي" للمشروع العربي، بعد الإتيان على "الحامل الاجتماعي" والآخر السياسي لهذا الأخير (المشروع). فقد بلورنا الفكرة المذكورة بما حدث في سياق تفكك البنى الشعبية والفئوية والطبقية وغيرها من المجتمعات العربية (أو في معظمها)، نعني تفكك الفئات الوسطى وتشظّيها باتجاه القاع، بسبب الأزمات الاقتصادية البنيوية الكاسحة، التي راحت تخترق تلك المجتمعات عمقاً وسطحاً. وهذه الفئات حملت سمتين اثنتين كبيرتين جعلتا منها قطب الرحى في الإنتاج المعرفي والثقافي والسياسي وغيره، وهما الميْسورية الاقتصادية والاستنارة العقلية، ومعهما القدرة على الحراك النّشِط. وهي إذ أخذت تتساقط وتتشظى، فإن ما أنتجته من مشاريع راح يسلك المسار نفسه. لقد سقطت -إلى حين أو آخر- سقوطاً مدوياً، وراح الناس يتساءلون: إلى أين بالمشروع القومي، والآخر الاشتراكي، والثالث الليبرالي التحديثي، والرابع الإسلامي غير "الدولتي"؟
ها هنا، توقف العديد من الحضور، متسائلين عما إذا كان العرب والمسلمون قد فقدوا ما أنتجوه، إلى الأبد، وعما إذا كان هنالك احتمال أو احتمالات لنشوء مشروع آخر جديد يغطي واقع الحال الراهن؟ ولمّا عكفنا على تقصي ذلك وأوغلنا في التقصي بحيث ظهرت تعقيدات وصعوبات ومعيقات دون ذلك من الداخل العربي كما من خارجه، نهض مَنْ طرح تساؤلاً أراد له أن يكون حلاً للمشكلة القائمة: قال: إذا كان الأمر على هذا النحو من التعقيد الهائل، لِمَ لا نسعى للاحتفاظ بما بقي لدينا، ونعمل -في الآن نفسه- على تطويره أو الاجتهاد في تطويره، بحيث يحقق المطلوب منه في عصرنا هذا الشائك والمتقدم بقدرات عظمى؟ إذاً، لِمَ لا نتعامل مع الإسلام بهذه الرؤية "وكفى الله المؤمنين القتال"؟ جاء هذا التساؤل ليزيد التعقيد تعقيداً، والإشكالية إشكالية، فقد برزت تساؤلات حول أنماط الحلول التي ستقدم لمشكلات كثيرة، منها تلك المتعلقة بالاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا، وبثورتي الاتصالات والمواصلات، وبالتنظيم المجتمعي القائم على موزاييك مفتوح من الإثنيات والطوائف والأديان والمذاهب الدينية والإيديولوجيات، ومن ثم بمفاهيم دخلت صلب العالم من مثل الوطن والأمة والشعب والمواطنة وحقوق الإنسان والصراعات العسكرية، إضافة إلى مفاهيم التنمية المستدامة والتقدم التاريخي والمساواة القانونية والواقعية التامة بين مكوّنات الأمة والشعب والمجتمع، وغير ذلك كثير مما تبحث فيه علوم اجتماعية وإنسانية متخصصة.
وبعد أن ميّزنا بين سؤالي النهضة العربية الحديثة والمرحلة المعاصرة، حيث رأينا أن السؤال الأول يحمل طابعاً تاريخياً مفتوحاً قائماً على التساؤل عن أسباب تخلفنا وتقدم الغرب، وأن السؤال الثاني يحمل طابعاً وجودياً صارماً يتحدد بالتأكيد على ضرورة إنجاز ما علينا إنجازه الآن وليس غداً بسبب من المعطيات التي أنتجها النظام العالمي الجديد المحيطة بنا، نقول، في هذا وذاك، اتضح لفريق من الحضور أن ما اقترحه فريق سابق من إمكانية اعتماد الإسلام المشروعَ الذي يحقق ما نصبو إليه، أن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن أي استعجال في النظر إلى الأمور قد يكون ذا ثمن ضخم يدفع ثمنه شعوب عربية غرقت عبْر فئات مثقفة وسياسية منها في "طريقة الخطأ والصواب" منذ السبعينيات من القرن المنصرم خصوصاً.
لقد اتضح أن الاستعجال في اختيار الرهانات، هو الوجه الأول من إشكالية منهجية عظمى في الفكر العربي السياسي النظري الراهن. أما وجهها الآخر فهو الإبطاء والتباطؤ في النظر إلى ذلك. ها هنا تبرز أهمية الحكمة العالمة.