أعان الله الزميلة مي شدياق على تحمل المأساة التي نتجت عن جريمة محاولة اغتيالها. هذه الزميلة المفعمة بحيوية الحركة والكلام والابتسامة الغامرة التي التقيتها مرتين، هما المرتان اللتان استضافتني فيهما في "نهاركم سعيد"، وشاهدتها تكاد تطير عن الارض مسرعة نحو مقعدها في زاوية الاستوديو...
مي شدياق، العصامية العاملة في القطاع الذي صار الموت السياسي، أحد معالمه... المتصاعدة، في هذا المشترك الفعلي والوهمي معا بين السياسي والاعلامي.
هناك جرائم تترك الضحيةُ مُرغمةً، عبئها على الأحياء... وهناك جرائم تتحمل الضحيةُ "وحدها" عبئها... كما في مأساة مي شدياق.
... الوفاء الحقيقي ان ينتج لبنان بنية سياسية تجعل دم وآلام مي شدياق، كما سمير قصير قبلها كصحافيّين، دماً وآلاماً غير مهدورة سياسيا، كما كل ضحايا الاغتيال السياسي.
... القتل مسؤولية القاتل السياسي. لكن الهدر هو مسؤولية الطبقة السياسية اللبنانية.
كيف يمكن فهم عدد من التحركات، شفاهة ونشاطا، التي ظهرت في الأيام، بل الساعات الأخيرة، وقام بهامسؤولون كبار سعودي ومصري... وفرنسي... خارج أن يكون ذلك تعبيرا عن تصعيد جدي جدا لدى حلفاء أساسيين لأميركا ضد ما آلت اليه السياسة الاميركية في العراق؟
لنقرأ... قبل التعليق:
وزير الخارجية الفرنسية التقط بدوره قبل يومين فكرة "خطر تقسيم العراق"... التي أثارها قبل أيام وزير الخارجية السعودي، ولا زال يركز عليها... فدعا (الوزير الفرنسي) الى "تنظيم مؤتمر دولي حول العراق لتفادي تقسيمه".
ليس هناك أكثر أذية على واشنطن هذه الايام من هذا النوع من الحديث... وهي التي تهيىء نفسها لـ"الاحتفال" الدعائي للتصويت العراقي الآتي على صيغة الدستور... ومن ضمن هذا "الاحتفال" مشاركة سنية واسعة تتوقعها واشنطن (أكثر من مليون حتى الآن) في هذا الاستفتاء... ولو بالاقتراع ضد...
التصويت على "التقسيم" في نظر فرنسا والسعودية هو نفسه انتصار الخيار الديموقراطي التوحيدي في العراق!
في هذا الوقت... يواصل أمير الديبلوماسية السعودية تركيزه على مخاطر "الاختراق" الايراني للعراق.
في الظاهر لا تستطيع واشنطن أن تعترض، لأن الوزير السعودي يسايرها ايضا في نقد ايران التي لا تكنّ لها السياسة الاميركية حاليا أي ود... ويا للمفارقة ما عدا في العراق نسبيا (وقبل ذلك في أفغانستان) حيث الدائرتان اللتان انخرطت فيهما ايران ببراغماتية... ناجحة منذ اللحظة الاولى... فقبلت الاحتلال الاميركي لكابول وكانت الدولة الاولى التي تفتح سفارتها هناك بعد السيطرة الاميركية على العاصمة الافغانية، وكذلك انخرطت في الوضع الجديد في العراق رغم الروابط السياسية الواضحة بين "الشيعية العراقية" وواشنطن... هذه "الشيعية" التي هي عمليا مع وجود "حزب الدعوة" و"المجلس الاعلى للثورة" في رأس الحكومة العراقية ذات مرجعيتين ايرانية وأميركية معا!! ؟
أما التحرك المهم فهو التصريحات التي واكبت استقبال الرئيس المصري حسني مبارك، المجدد له انتخابيا والذي لم يعد قلقا على موقعه الرئاسي الآن، للرئيس السوري بشار الاسد.
قال الناطق باسم الرئاسة المصرية ان سوريا عامل مهم للاستقرار في المنطقة وأنها "أبلغت العواصم العالمية المعنية ان زعزعة استقرار سوريا ستكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على المنطقة" بل قالت "الرئاسة المصرية" انها "ترفض عزل سوريا".
... هذا يجعل افتتاحية "تشرين" السورية تقول في عدد أمس الاول الاثنين أي صبيحة اليوم التالي للقاء القاهرة... بالحرف:
"... كل ذلك (أي السياسة الاميركية ومن ضمنها "التهديدات الهستيرية لسوريا") يدفع الخبراء في شؤون المنطقة الى توقع اشتعال "الشرق الاوسط" كله وانهيار الاستقرار النسبي القائم حاليا. وخروج الأمور عن السيطرة والدخول في فوضى شاملة حيث يبدو ما يحصل في العراق اليوم وكأنه تجربة صغيرة او مثال بسيط لما ستكون عليه الاحوال في أي عمل أميركي – اسرائيلي ضد سوريا او ضد ايران او ضد المقاومة في لبنان".
كيف نفهم كل هذه التصريحات:
عودة ما لـ"المحور المصري السعودي السوري" في السياسة العربية على ضوء الوضع العراقي؟
ولماذا الآن اذا لم يكن شعورا ثلاثيا بضعف (أو مأزق) الموقف الاميركي حيال العراق أو رهانا على ضعفه؟
... وماذا يعني "انضمام" فرنسا الحليفة التي تدير مع الولايات المتحدة الدولة اللبنانية، الى هذا الضغط على أميركا العراقية؟
... في بيروت كيف تقرأ "الدويلات الطائفية" اللبنانية هذه الخطوات؟
صحيح ان هناك حدودا لمدى مقدرة دول ذات دور اقليمي مثل مصر والسعودية الآن في تحديد سقف ما للصراع الاميركي – السوري او في رسم "قواعد لعبة" مختلفة في هذا الصراع بين "الدائرة العراقية" و"الدائرة اللبنانية"، دائرتي الهجوم الاميركي العسكري في العراق والسياسي في لبنان... فهاتان الدولتان (والأصح هنا القول النظامان) كانتا ولا تزالان كنظامين تحت الضغط الايديولوجي – السياسي الاميركي منذ 11 ايلول 2001... وهما إذن في موقع دفاعي لا هجومي أساسا... لكن بمجرد عودة ملامح تصريحات هجومية كتلك التي أشرنا اليها أعلاه في مصر والسعودية، تعني مباشرة ان بامكانهما الانتقال بعد طول انتظار الى قدر ما نقدي ضد السياسة الاميركية في العراق. فالكلام عن "الفيديرالية" مفتاح النقد في الخطاب السعودي، و"الاستقرار" مفتاح النقد في الخطاب المصري، و"الاحتلال" مفتاح النقد في الخطاب السوري لا يمكن إلا ان يكون متصلا بتلمس هذه الأطراف الثلاثة لضعف ما جدي في المشروع الاميركي للعراق، ميدانيا، عبر تفاقم الانهيار الامني وسياسيا عبر "التغلغل" الايراني وتفتت القوى المحلية.
... من المبالغة القول بعودة "محور"... لكن من الواقعية رصد بداية رقصة مستجدة... غير مكتملة، لكن جديدة، ربما أعطت نَفَساً جدياً للقيادة السورية...