مع بداية تفتحي على الدنيا كنت أرى صورة رجل رحب الوجه بابتسامة وادعة و ملامح واضحة، وجه مريح يدفعك لتكرار النظر إليه، الصورة كانت لجمال عبد الناصر، و كانت معلقة في صدر بيتنا و غالية جداً على أبي بقدر حبه لصاحبها، كان أبي قومياً بشكل جنيني لا يفهم ما هي الأيدولوجيا و لا يعرف تعريف الدولة ولا ما هي المؤسسات و لا الديمقراطية و الامبرالية و لا يحب الأحزاب، لكنه أحب عبد الناصر الفلاح الصعيدي القومي المحب للفقراء صاحب الإصلاح الزراعي و بكاه عندما مات، لم يبكه مجازاً بل بدموع حارة صادقة رأيته يبكيه وآخرون من أهل قريتنا، و استمرت الصورة معلقة وانضم إليها نسخة من مجلة النصر بعدد خاص عن وفاة عبد الناصر فيها تغطية لوفاته ونقلة ودفنه. احتفظ بها في صندوقه الخاص، رحم الله جمال عبد الناصر.
أتذكر هذا و أنا لم أنسه حتى أتذكره، و ما تزال تترد في أذني كلمة زميلي في العمل و هو مهندس مصري، حيث كنا نعمل سوية في مشروع إنشاء خط للغاز،حين رأى الزينات والاحتفال بمناسبة ذكرى حرب تشرين ( أكتوبر ) قال حينها مستغرباً ( الله .....هو انتو بتحتفلوا بأكتوبر ..........زيَنا ...هو انتو بتحتفلوا ليه عملتوا إيه ... ؟؟) هذا المهندس يبلغ من العمر ثمان وعشرين عاماً أي أنه ولد بعد حرب تشرين بأربع سنوات.
هل من المعقول أنه و هو المهندس الأكاديمي لا يدري أن سورية كانت أحد أقطاب الحرب و أن الحرب شنت من قبلها بالتنسيق مع مصر وذلك في أول مبادرة عربية لوضع حد للعتو الإسرائيلي الذي ما زال مستمراً باطراد إلى الآن ؟
لماذا يسقط اسم سورية إعلامياً وحتى في المناهج الدراسية إن كان في مصر أو غيرها، حين ذكر حرب تشرين رغم أنها استمرت في حرب استنزاف قرابة ثلاثة أشهر بعد توقف المعارك على الجبهة المصرية، في الوقت الذي يصر الإعلام السوري و مناهج الدراسة على ذكر دور مصر و الإسهام العربي بالجنود و السياسة و توقيف إنتاج النفط من قبل الدول المصدرة للنفط لتضغط على الدول الغربية التي كانت تدعم إسرائيل في تلك هذه الحرب.
حتى عندما يذكر اسم سورية فإن ذلك يتم بشكل هامشي و كأنها لم تكن سوى تابع لمصر أو حليف لوجستي صغير لا داعي لذكره
اسألوا أي تلميذ سوري في المرحلة الابتدائية عن حرب تشرين سيجيبكم و يذكر اسم مصر قبل سورية، من المسئول عن هذا التغييب المتعمد..؟
بحكم المؤكد أن استمرار الاعتراف بدور الآخر إن كان من قبل السوريين أو المصريين بغض النظر عن تداعيات ما حدث في تلك الفترة هو مهم جداً لاستعادة ذلك الشعور النبيل لتقاسم معركة المصير التي ما زالت مستمرة إلى الآن و ستبقى إلى أن ينتهي هذا الصراع بإقصاء أحد الخصوم للآخر العرب أم إسرائيل و بحكم الصيرورة التاريخية ورغم التشاؤم لا بد أن تكون إسرائيل هي المقصية كدولة وليس كأفراد، هذا لن يتم في المدى الزمني المنظور، ربما في زمن طويل، لا بأس فالاستراتيجيا أطول من الزمن الملموس أحياناً، إلى حد أنها تتداخل معه و تبدو و كأنها من عناصره أو هو من عناصرها لا فرق.
قد يكون هذا الإغفال من نتائج الخلافات التي نشبت بين مصر وسورية عقب الحرب و تر سخت بعد كامب ديفيد، حيث سادت فترة من الحرب الإعلامية حاولت فيها مصر التقليل من شأن سورية و تحجيم دورها في حين أكدت سورية على دور مصر العربي فاصلة شعبها عن نظامها في محاولة واضحة لتحريض فعالياتها الشعبية لإسقاط نظامها الموسوم بالخيانة، من الواضح أن ذلك المهندس من الأجيال التي أعقبت تلك القطيعة و التي حجبت عنها حقائق بشكل متعمد.
خلف ذلك آثارا سلبية واضحة في التعاطي بين البلدين الذين يحتم الوعي و المصلحة والتاريخ والجغرافية ضرورة اتفاقهما و التحالف بينهما. و هو ما دفع الحكومتان لتدارك ما مضى وتصحيح التعاطي بينهما دون أن يحد ذلك من بعض رواسب الماضي.
ما زال الإعلامي السوري رغم تواضع أداؤه و تأثيره، يصر على ثوابت قومية معروفة في التعاطي مع أزمات المنطقة وشؤون الدول العربية، حتى المناهج الدراسية السورية ما زالت مخلصة لذلك البعد القومي الذي يبجل أي شخصية وطنية عربية و يفاخر بالمعارك التي خاضها العرب، و إلى الآن يعتبر الصومال و أريتيرية عربيان و يذكر التلامذة و الطلاب بالبقاع العربية المحتلة ( الجولان – فلسطين – لواء اسكندرونة- عر بستان – الجزر الإماريتية – سبتة ومليلة – إلخ...............)
وما زال الإعلام المصري رغم تفوقه يركز على مفهوم الأمة المصرية و يردد ( مصر أم الدنيا ) و مصر أم الفن ومصر... و هذا مشروع لكن ليس لدرجة أن يصل الأمر إلى إغفال الآخر أو التغافل عنه.
لا يستطيع أحد التغاضي عن النزوع القطري الواضح في المنطقة الآن و هو أمر كان موجوداً و إذا قلنا غير ذلك سنكون طوبا ويين لكن هذا النزوع يبدو مرضياً الآن، ليس بإنكار الترابط، المصير والانتماء فقط بل بمحاولة تحميل الآخر الأخطاء و عقابه. و هذا ما يتضح من موقف العراقيين من سورية الآن.
أواخر سنوات الثمانينات و التسعينات و حتى مطلع القرن الجديد كانت دمشق ممتلئة بالمعارضين العراقيين الذين فتحت لهم دمشق أبوابها مشرعة، منهم من عمل في المؤسسات و الشركات السورية وكانوا زملاء لنا، ننظر لهم بعين الإعجاب والتبجيل، هؤلاء المناضلين الهاربين من الإجحاف أصحاب المواقف الوطنية التي( كادوا ) يدفعون حياتهم ثمناً لذلك هؤلاء الذين يحملون أسماء تهز الجبال ( أبو حنين، أبو عرب. ...أبو فرات...) عبروا سورية غرباً إلى السويد و النرويج ولندن و باريس.......... سألنا عنهم ذات صباح لنكتشف ذهابهم، أشخاص آخرون عملوا في مجالات أخرى سياسية و ثقافية و اجتماعية...لم يتيسر لنا التعرف عليهم عبروا أيضاً أو بقوا في سورية يعملون و هم أعز من أهل البلد.
في الوقت التي أغلقت فيه أبواب الدنيا كلها خاصة في السنوات الأخيرة في وجه العراق فتحت سورية أبوابها، لم تكن تدخل مدينة سورية إلا و تجدها ممتلئة بالعراقيين بسياراتهم ( الأمريكية ) يبسطون ببضائعهم يتاجرون بكل حرية، رب قائل أن ذلك من مصلحة السوريين أيضاً، قد يكون لكن ليس لدرجة كبيرة فالبضائع التي كانوا يبيعونها ليست بتلك الجودة و سعرها زهيد مما يشكل تنافساً مزعجاً لتجار البلد.
عبروا سورية إلى الغرب ثم عبروها عائدين إلى الشرق إلى العراق ليشتموها و ليكتشفوا أن تساند الإرهاب و أن الدمار يأتي منها... و ليصرخوا في كل وسائل الإعلام دعونا نبني بلدنا.
ابنوا بلدكم بارك الله بكم و مهندسيكم موجودون يرطنون بلغات أخرى لكن دعوا سورية و لا تجعلوا منها علكاً أسوداً.
ماذا جنت سورية من كل هؤلاء و ماذا جنى الشعب السوري من استضافته لهم على حساب فرص عمله و رزقه ..؟
لن نطنب بالكلام عن لبنان فأي كلام يقال لا يعدو فائض معلوماتي على رأي لابلاس ( حش حكي) بالمعني الدارج هذا ما ظهر بعد الصخب والضجة الإعلامية التي استنفذت كل ما يمكن أن يقال، لكن ما لفت انتباهي في الاعتصام الذي جرى في ساحة الشهداء ساحة الأحرار الاميركيين و الفرنسيين تضامناً مع المذيعة مي شدياق أن ما زال هناك من ينادي ( سورية .........برى ) سورية خرجت . أين برى؟ لست أدري، ربما يريدوننا أن نخرج من أنفسنا.
ما التاريخ إلا دورات حضارية بكل الأبعاد سياسية و اجتماعية و غيرها ... لذلك على اللبنانيين أن يحفظوا قواهم قليلاً و يخففوا من هوجهم الحماسي، و يطرحوا شعارات جديدة وطنية حقيقية غير متشنجة، شعارات واقعية.
ربما هناك من يحلم أن تتوصل التقنية الأمريكية إلى حل بنزع لبنان من الشرق لتزرعه مكان كوبا و ترسل لنا كوبا مكانه أو هناك من يتمنى أن تنتزع سورية و تلقى في المتجمد الشمالي، و هناك دولة شعارها و قوتها تسمحان لها بالامتداد،على مبدأ ملء الفراغ، غريب سورية خرجت لكن إلى الآن لا يشعر اللبنانيون بالفراغ ، بالتأكيد سيثابرون على الصراخ ( سورية ...برى)