المحايدون من أهل السياسة والاعلام وعدد من القريبين من دمشق يقولون ان هناك اختلافاً كبيراً في النظرة بين دمشق وواشنطن الى الصراع الدائر في لبنان بل في المنطقة كلها بين سوريا والولايات المتحدة. فنظرة المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي بعربه والمسلمين تعتبر ان اميركا صارت في قلب المنطقة العربية، بعد احتلالها العراق قبل سنتين وبضعة أشهر وانها رغم تعثرها فيه وعدم نجاحها حتى الآن في اعادة السلم اليه بدأت تشكل تهديداً كبيراً لكل القوى الاقليمية المعارضة لها وفي مقدمها سوريا. وتعتبر ايضاً ان اميركا هذه حققت فوزاً بالنقاط على سوريا عندما نجحت بعد سلسلة اخطاء ارتكبتها الاخيرة في لبنان كان ابرزها التمديد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود والذي أدى الى ما أدى اليه من جرائم ومآس معروفة في مد "الرأي العام" اللبناني المناهض لدمشق بالشجاعة اللازمة للتعبير عن رأيه وفي وضع الرأي العام الآخر في لبنان المؤيد لها في موقع دفاعي، وكذلك عندما نجحت في اجتذاب المجتمع الدولي الى صفها الأمر الذي ضيق الخيارات امام القيادة السياسية السورية العليا ودفعها في نيسان الماضي الى الانسحاب العسكري من لبنان . وتعتبر النظرة اياها ثالثاً ان المجتمع الدولي بقيادته الاميركية مستمر في مواجهة سوريا داخل لبنان وفي المنطقة وانه سيصعّد هذه المواجهة اولاً بغية حماية لبنان من انعكاسات الحرب المضادة التي تقودها سوريا. وثانياً بغية حشرها في زاوية تجعلها مضطرة الى سلوك طريق من اثنتين. اولاهما الاستمرار في التصلب والمعاندة والمكابرة الأمر الذي يوصل الى الانتحار او الى فوضى عارمة تختلف عن الفوضى المنظمة التي يتكلم عليها البعض، علماً ان احداً في العالم اياً تكن قوته لا يستطيع تنظيم الفوضى أي فوضى. وثانيتهما المهادنة فالتسوية ولكن بشروط صعبة وقاسية كان في الامكان تلافيها لو تجاوب السوريون في السابق ولا أحد يضمن ان تزيل الاخطار عن سوريا وخصوصاً عن النظام الحاكم فيها.
أما نظرة سوريا الى الصراع الدائر في لبنان بل في المنطقة كلها كما يفهمها المحايدون انفسهم من أهل السياسة والاعلام وعدد من القريبين من دمشق فمناقضة تماماً لنظرة المجتمع الدولي اليه رغم عدم استهانة المسؤولين السوريين بدقة الوضع الذي يمر فيه نظامهم وبلادهم، ورغم ادراكهم خطورة المواجهة مع اميركا بل المجتمع المذكور وصعوباتها الجمة. تعتبر هذه النظرة ان سوريا ليست في حال انهيار وليست في حال ضعف كالتي يصورها لبنانيون وبعض العرب والعالم. صحيح انها ليست في قوة الولايات المتحدة وان الفارق بين قوتيهما هائل. لكنها ليست في الوقت نفسه مجردة من عوامل قوة لا بد ان تعوق التحرك الاميركي ضدها وان تصعب انتصار واشنطن فيها. وتعتبر هذه النظرة ايضاً ان قوة سوريا حالياً هي في ضعفها اذا جاز التعبير على هذا النحو. ذلك ان هذا الضعف لا يقتصر فقط على النظام فيها بل يطاول المجتمع السياسي كله. وفي ضعف كهذا لا يستطيع أحد ان يجزم بوجود بدائل من النظام اكثر موضوعية واكثر قابلية للتعاون مع المجتمع الدولي او الانفتاح عليه. ولا احد يستطيع ان يضمن عدم قيام حكم اسلامي سلفي اصولي فيها او وقوعها في الفوضى، وذلك امر ليس في مصلحة واشنطن أو العرب مجتمعين ومنفردين. وتعتبر النظرة نفسها ثالثاً ان دخول اميركا عسكرياً قلب العالم العربي جعلها في خطر مثلما صارت الجهات العربية المناهضة لها في خطر ايضاً. وتحديداً تعتبر ان سوريا وهي اليوم عنوان المواجهة "العربية الرسمية" اذا جاز التعبير على هذا النحو مع اميركا والمجتمع الدولي واسرائيل حليفة الاولى، تعتبر ان سوريا صارت على حدود اميركا مع ما يرتبه ذلك على اميركا من "اخطار" وتعثر وهذا يعني ان دمشق لم تعد في موقع رد الفعل على ما تقوم به واشطن بل صارت في موقع الفعل وربما المبادرة في شكل من الاشكال. وتأكيداً لهذه النظرة يقول المحايدون اياهم من أهل السياسة والاعلام كما عدد من القريبين من دمشق سوريا تخوض اليوم بل منذ فترة "حرب عصابات" باللغة اليسارية اي بالأحرى الماركسية – اللينينية السابقة اي حرباً شعبية ضد اميركا وحليفها الاسرائيلي وحلفاء الاولى داخل المجتمع الدولي. ولهذه الحرب جبهات ثلاث، الأولى في العراق وتستخدم فيها وسائل متنوعة بغية ايقاع اميركا في الخسارة أو على الاقل اقناعها بأن تجنبها الخسارة لا يمكن ان يحصل اذا لم تعترف بقدرة سوريا على المساعدة ايجاباً في العراق انطلاقاً من القاعدة المعروفة: ان القادر على السلب قادر ايضاً وبالمقدار نفسه على الايجاب. والثانية هي فلسطين رغم خصوصية هذه الجبهة وتنوع المشاركين في الحرب أو في الصراع عليها. اما الجبهة الثالثة والاكثر حماوة من الجبهتين الاخريين اليوم فهي لبنان. ذلك ان سوريا لا تستطيع الخسارة في لبنان لأن انعكاساتها السلبية ستكون مباشرة عليها.
أي نظرة من الاثنتين أقرب الى الحقيقة والواقع؟
المتابعة الدقيقة للاوضاع في العالم والمنطقة في ضوء ما يجري على الجبهات الثلاث المذكورة اعلاه وكذلك في ضوء الحرب على الارهاب الذي اتخد عنوان الاسلام في العالم كله ومن المجتمع الدولي كله تدفع الى الاعتقاد بوجود عناصر حقيقية وواقعية في كلا النظرتين. لكن ما يخشاه الكثيرون ومنهم جهات عربية عرفت دائماً بمحاولة مساعدة سوريا في العالم وفي الغرب تحديداً رغم الاختلاف معها حول قضايا كثيرة هو ان تصل سوريا الى درجة الاقتناع بأن انتصارها في "الحرب الشعبية" المشار اليها مؤكد او محتم. فاذا كانت اميركا القوة العسكرية الاعظم في العالم لم تربح حتى الآن سواء في العراق أو حتى في الحرب على الارهاب فان سوريا بدورها ذات القوة المحدودة لا تستطيع ان تربح بدورها، صحيح ان الواقع الشعبي العربي والاسلامي المتعاطف معها لأنها تواجه اميركا وليس لأي شيء آخر مهم وله تأثير كبير. لكن قدرته على حسم الصراعات والمعارك بل الحروب، وخصوصاً على المدى القصير أو المتوسط ليست ثابتة. فهل تستطيع سوريا الصمود حتى المدى البعيد؟
لذلك كله تعتقد الجهات العربية المشار اليها وحتى الدولية ان مسؤولية الوضع الراهن التعس لا تتحملها اميركا وحدها او المجتمع الدولي، بل تتحملها ايضاً سوريا وذلك انها اخطأت الحسابات منذ 11 ايلول 2001، ولا تزال. والاستمرار في اخطاء كهذه لن يكون مفيداً لها على المدى الطويل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل تستطيع سوريا اليوم في حال "صوبت" حساباتها انهاء الاستهداف الذي تتعرض له أو الذي تعتقد انها تتعرض له؟ لا أحد يملك جواباً عن ذلك.