تاريخياً، ولدت الديموقراطية في أثينا اليونانية. إلا أنها كانت حكراً على الأثينيين وحدهم. أما بقية أهل المدينة ـ الدولة من العمال والمستعبدين فقد استثنوا منها. هذا الاستثناء لا يزال مستمراً حتى اليوم في ثقافة الاثينيين الجدد. فالرئيس الأميركي جورج بوش لا يجد مدخلاً الى قلوب الأميركيين سوى الحديث عن الديموقراطية، والادعاء بإدخالها الى الشرق الأوسط ومن البوابة العراقية بالذات. ففي كل مرة تجري في أي دولة من دول العالم العربي انتخابات برلمانية، أو رئاسية، وفي كل مرة تشرّع هذه الدولة أو تلك إصلاحاً اجتماعياً يتعلق بالمرأة أو التعليم، أو الحريات المدنية أو الدينية، يلتقط الرئيس الأميركي المبادرة ليوظفها في عملية تحسين صورته أمام الرأي العام الأميركي وكأنه صاحب الفضل الأول والوحيد، مدعياً أنه لولا الغزو الأميركي للعراق لما وجدت الديموقراطية طريقاً الى المنطقة العربية.
وعلى الرغم من أن هذا الادعاء غير صحيح، فإن الديموقراطية التي يسوّق لها هي ديموقراطية انتقائية. أو بمعنى أصح، ديموقراطية استبعادية لمن يعتقد الرئيس الأميركي أنهم لا يستحقونها. والمثال على ذلك موقفه من الانتخابات الفلسطينية المقبلة. فقد أعلنت إسرائيل على لسان رئيس حكومتها الجنرال شارون أنها ضد مشاركة تنظيمي الجهاد الإسلامي وحماس في هذه الانتخابات اعتقاداً منها بأن مؤيدي الحركتين سوف يحصلون على نحو 40 في المئة من الأصوات على الأقل. ومن شأن ذلك أن يوفر للإسلاميين موقعاً قوياً في السلطة الفلسطينية.
ولقطع الطريق أمام وصول الإسلاميين، فإن إسرائيل تشترط إحجامهم عن الترشيح في الانتخابات (؟) أو رفض قبول طلبات ترشحهم. وإذا أصروا، فإن إسرائيل، والكلام للجنرال شارون، لن تسمح بإجراء هذه الانتخابات ولو بالقوة العسكرية. لم تعارض الولايات المتحدة كلام شارون ولم تعترض عليه. ولكنها أكدته بطريقة غير مباشرة عندما أعلن متحدث بلسان البيت الأبيض تعليقاً على هذا الأمر أن الولايات المتحدة لن تتعامل مع إرهابيين حتى ولو كانوا منتخبين!! وهذا يعني أن الإدارة الأميركية تقدم ضوءاً أخضر للموقف الشاروني، ولو بصورة غير مباشرة.
لقد سبق للولايات المتحدة أن اتخذت الموقف ذاته من منظمة التحرير الفلسطينية. ومشهور قول وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر في عهد الرئيس نيكسون: "وداعاً منظمة التحرير" (باي باي، P.L.O) الذي أطلقه بعد قمة الرباط التي اعتبرت المنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لقد صنّفت المنظمة بأنها إرهابية، ومُنع قياديوها من التوجه الى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، وطوردوا في زوايا الأرض، ثم اضطرت الولايات المتحدة وبعد ذلك إسرائيل نفسها، الى التفاوض وإلى عقد اتفاقات تسوية سلمية معهم. ولعل الأغرب من ذلك كله، هو أن طلب "الاستبعاد الديموقراطي" يأتي من الولايات المتحدة نفسها، وفي الوقت الذي أعلنت فيه حماس والجهاد عن توقيف العمليات العسكرية، وكذلك في الوقت الذي يجري فيه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مفاوضات مع الحركتين في ضوء الانسحاب الإسرائيلي من غزة لإشراكهما مباشرة في العملية السياسية.
ترى لو أن التقديرات الإسرائيلية لقوة حماس والجهاد بين الفلسطينيين لا تتعدى خمسة أو عشرة بالمئة، وليس أربعين، هل كانت إسرائيل تعترض على اشتراكهما في الانتخابات الفلسطينية، وهل كانت الولايات المتحدة تدعم هذا الاعتراض؟ وهل أن الموقف من المشاركة في الانتخابات يتوقف على نسبة شعبية حماس والجهاد؟ بمعنى هل يكون لهما حق المشاركة إذا كانت شعبيتهما محددة ويحرمان من هذا الحق إذا كان الرأي العام الفلسطيني مؤيداً لهما في ظروف الحصار والقهر والاحتلال الإسرائيلي؟
ثم بأي منطق تعطي إسرائيل نفسها حق الاعتراض وإملاء الشروط على الديموقراطية الفلسطينية بالقوة المسلحة وحتى بعد الانسحاب؟ وبأي منطق "ديموقراطي" تعطي الولايات المتحدة نفسها حق دعم هذا الاعتراض؟
هل هي الديموقراطية الأثينية التي تستبعد من تريد لتضمن وصول من تريد الى السلطة؟
إنها في الحسابات الأخيرة ديموقراطية التضليل على العرب في الشرق الأوسط... وديموقراطية الكذب على الأميركيين في الولايات المتحدة... وديموقراطية الخداع في العالم كله!!