لم يهتم الفكر العربي طوال أزمنة الثورة (الخمسينات والستينات من القرن العشرين) والسلطة (السبعينات وما بعدها) بالمسألة المدنية أو الحضارية. لا بل إنه مال إلى التقليل من شانها أو تذويبها في قضايا ورهانات مختلفة عنها إن لم تكن مناقضة لها. في الزمن الثوري بدا التمدن والرقي شأنا رجعيا مضادا للثورة، والمتمدنون بورجوازيين أو إقطاعيين يتعين سحقهم، وبالعكس كانت الفظاظة والعنف والخشونة قيما مرغوبة وتقدمية. وفي زمن السلطة هيمنت عمليا أنظمة عضلية منشغلة بخلودها أولا وأخيرا، ونظريا أفكار الهوية والأصالة، الهاجسة بالتماثل مع الذات والاختلاف عن الغير، والتي لا تترك مكانا لقيم التحضر والمدن، هذا إن لم تعتبرها قيما غريبة وغربية.
المقصود بالمسألة المدنية مدى حضور شاغل ارتقاء العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع، وبينهم والسلطة السياسية، إلى مستوى أقل حفولا بالعنف والتعصب وأقرب إلى التسامح وحسن التعايش بين الناس. إنها تساؤل عن درجة اهتمامنا التربوي والثقافي والسياسي بحسن التعامل في ما بيننا وبإتقان أعمالنا. والحال إن الاشتغال بهذا الشأن ضعيف إلى درجة تبيح لنا القول إنه ليست هناك مسألة مدنية في ثقافتنا المعاصرة. نتحدث عن تمدن حين يمنح المجتمع اهتماما كبيرا للنظام والترتيب والرهافة ويرتقي بالذوق العام في السلوك والفن والزي والعمران وتصميم المدن ونظافة الشوارع ولغة التخاطب.
ثمة ثلاث ركائز للعملية التمدينية المرتجاة: تمدين السلطة وضبط العنف في المجتمع؛ تمدين الوعي ونزع العقيدية في الفكر والثقافة؛ وإحياء قيم العمل والعلم ونزع التمييز الفئوي والامتيازات غير العقلانية.
أعني بتمدين السلطة تقييد العنف الرسمي وغير الرسمي وإخضاعهما للقانون، وتقديم العيش للسياسة على العيش من السياسة (ماكس فيبر)، واستبطان أخلاقية الوظيفة العمومية: شاغل المنصب العام الذي يجيد عمله يقوم بواجبه ولا يُشكر عليه، فيما الذي يقصر يلام ويحاسب ويقال. واقع الحال نقيض ذلك. العنف مستشر وعادي، السلطة لا تحتكر العنف بل قد تشجع على انتشاره، وتستخدم منظمات وميليشيات خاصة بها لقمع خصومها. وإذا أنجزت السلطات شيئا فإنها تبالغ فيه وتطالب مواطنيها التعبير عن امتنانهم، وتتحدث عن العطاءات والمكرمات، وإن فشلت لا تحاسب ولا تعاقب. وفي الخطاب السياسي انتقلت دول عربية كثيرة من استفتاءات صورية تحمل بقايا مدنية إلى ما يسمى تجديد البيعة للحاكم، وهو طقس استعراض جماعي للولاء، يرفع الحاكم فوق السياسة والسوية البشرية العادية، ويحط الناس دون الإنسانية والمواطنة. الحكومات نفسها منزوعة السياسية وتغرق في الفساد والقسوة والمتعية. الدولة العربية على العموم ليست مقرا للسياسة والعقلانية والعمومية الوطنية، هذا إن لم تكن بؤرة للتطرف والعنف والفساد. مستوى أطقمها متدن، ذوقها سمج وفاضح. إنها قدوة معكوسة لمواطنيها على صعد الأمانة والكفاءة والثقافة والإنجاز.
ونتحدث عن تمدين الوعي بمعنى قيامه على النسبية والتسامح واليسر والاحترام المتبادل. الوعي المدني نقيض التعصب والنزعة العقيدية التي تجمع بين عسكرة الوعي وتسخيره لخدمة صراع اجتماعي، لا سياسي، ولا ينفتح على أفق تسويات سياسية، محض تبديل مواقع. نزع التعصب العقيدي لا يعني بحال نزع العقائد ومواثيق الإيمان الديني وغير الديني في المجتمع. فالنزعة العقيدية ليست نتيجة محتومة لوجود عقائد، وإن كانت إغراء دائما لها. العقيدية تنجم عن استخدام العقائد أدوات لكسب حرب اجتماعية وليست سببا لها. وهي تجهز أطراف الحرب وتمنحها مبدأ تماسكها وتشكل الملاط القيمي والفكري اللاحم لها، بكلمة واحدة تنتجها كمعسكرات محاربة. بدورها الحرب هذه، أو المواجهة اللاسياسية، ضرورية كي تتحول العقائد إلى نظم عقيدية مغلقة مكتفية بذاتها نابذة لغيرها. العقيدية بهذا المعنى منتجة للعصبية وللتعصب. عصبية معسكرنا ومبدأ التحامه وتعصبنا ضد معسكر العدو. وكآليات ذهنية يقوم التعصب العقيدي على إعادة هيكلة العقيدة الدينية أو الدنيوية لتلبي الحاجات القتالية لحامليها، ولفرض مجانسة كلية عليها هي ذاتها وعلى المعسكر الذي توحده. أسلمة الإسلام (جورج طرابيشي) ومركسة الماركسية، إن جازت المحاكاة، هي عمليات مجانسة وإعادة صياغة لمصلحة ما يعتقد أنه العصارة الخالصة لكل منهما.
تمدين الوعي يمر ضرورة بكشف منطق الطلب على العصبية، وبإضعاف النزعة العسكرية أو الاستقطابية في الثقافة والفكر والسياسة. وهو لا ينال بتبني أو استنساخ مفاهيم ونظريات وأنظمة فكر حديثة. المدنية لا تتبنى ولا تستنسخ، إنها فعل اجتماعي ثقافي: حيازة المجتمع أدوات عمومية لمداولة نزاعاته ومخاوفه، وهذه هي الوظيفة الاجتماعية للنخبة؛ وفعل سياسي وحقوقي: تحقيق مطالب التماسك والعصبية على مستوى العمومية والمساواة؛ وفعل ثقافي، مقترن ببروز الذات الحرة من الشرانق العقيدية التي تكبل العقل بالأصفاد وتخنق صوت الضمير وتزدري الوساوس الأخلاقية وتقسي القلب.
البعد الثالث للعملية التمدينية هو إحياء قيم العمل والعلم وارتباط البذل بالنيل والجهد بالثمرة.
يعطل الاقتصاد الريعي، سواء كان الريع استخراجيا أم سياسيا (ريع الموقع)، العملية التمدينية وينزع مدنية السلطة والمجتمع معا: الأولى بمنحها استقلالية غير مستحقة عن المجتمع وفاعلياته الإنتاجية، والثاني بحيازته دخولا ومكاسب امتيازية لم تنجم عن العمل. ويضعف فكرة الاستحقاق والجدارة، ويخرب أقنية الترقي الاجتماعي العمومية (العمل والعلم والكفاءة...)، ويخمد الدافع نحو إتقان الأعمال، بل يضعف الشعور بالحاجة إلى العمل وبذل الجهد. إن العمل الشاق، الطوعي، وحده هو الذي ينفتح على الإبداع واكتشاف الذات ومعنى الحرية.
الاقتصاد الريعي لا ينجم عن محض وجود الريع، بل هو تفضيل سياسي لأطقم حكم، تستخدم الريع لحيازة أو ترسيخ موقع امتيازي في تحريك الموارد وتوزيعها وصنع الولاءات. لذلك حتى دول عربية لا تتمتع بريع استخراجي مهم تحولت دولا ريعية عن طريق تتجير موقعها في الاستقطابات الدولية أو تأجير سياساتها ومواقفها للقادرين على الدفع و/أو الحماية. ذلك أن دول الريع السياسي تجنح نحو تعميم الفساد في مجتمعاتها، أي رعاية نظام ريع سياسي داخلي، تغدو فيه السلطة موضوعا للتتجير والتأجير، ما يقتضي حراسة هذا الأصل بعنف هائل كيلا ينضب.
نقول ذلك لإبراز حقيقة أن الاقتصاد الريعي، أو بالفعل اللامدني، لا ينجم عن محض وجود ريوع استخراجية مهمة، وانه ليس من الضروري أن ننتظر نضوب الوقود الاحفوري من أجل التحول نحو اقتصادات لا ريعية.
التحول نحو ربط المكافأة بالكفاءة، والاستحقاق بالجهد، وترسيخ مبادئ المسؤولية العمومية والمحاسبة والعلانية على مستوى السلطة أولا، ثم على مستوى المجتمع، عملية صراعية تمر بتحول موازين القوى الاجتماعية لمصلحة قيم مجتمع العمل والإنتاج والعلم على حساب مجتمع السلطة والريع والقرابة.
في المجمل، مجتمعاتنا المعاصرة مجتمعات عنف ونزعات تعصبية وريع، باختصار مجتمعات غير متمدنة. وهي غير مدنية لأنها غير متمدنة، إذ يبدو لنا أن حدا أدنى من التمدن ضروري من اجل أن يمكن الكلام على مجتمع مدني.
يبقى أن هناك نبرة مدنية هي الصوت العادي. النبرة اللامدنية، بالمقابل، صارخة أو آمرة أو ساخطة. أما خير ما تقوله فهو ما يقال همسا، لكن خير ما تقوله ينتمي إلى عالم ما فوق المدنية وما فوق السياسة، عالم الحب والسخاء والمجانية.