من له أذن فليسمع و من له عين فليرَ.
لكن ماذا إذا كان المسؤولون لهم آذان لا تسمع سوى الإطناب والمديح وعذب الكلام, ولهم عيون لا ترى إلا الماء والخضراء والوجه الحسن؟! فعندما يطرحون للمداولة مسألة سحب الدعم للمشتقات النفطية, يتم ذلك بشفافية بريئة من كل توقع لما قد يحدثه هذا الطرح في بلد تطير فيه الشائعات بلا أجنحة, وتحط كالغول في المناطق الحدودية, فتثير الهلع والفزع في قلوب المهربين الصغار قبل الكبار, من يوم أسود ربما يكون غداً, يتضاعف فيه سعر المازوت, وتقطع فيه دروب التهريب, فلا يبقى أمامهم سبيل سوى زيادة نشاطهم من عشر رحلات يومياً الى عشرين وربما ثلاثين, من يدري أي رحلة, قد تكون الأخيرة؟ بانتظار ذلك الموعد الآتي على حين «غرة», لا بأس في أن تحصد الشجارات على المازوت في محطات الوقود كل يوم قتيلاً أو أثنين, كما لا بأس البتة في ألا يحالف القدر مواطنين وأطفال أبرياء النجاة من بيك آب أعمى, أو موتوسيكل أرعن يطير على دروب بلدات وقرى المناطق الحدودية حاملين المازوت والموت معاً من محطات الوقود إلى الحدود.
هل هناك من يرى؟ نشك. عداد الضحايا لا يتوقف, كل يوم هناك حادثة سير, أو قتل جراء نزاع أو مطاردة, تزايدت في السنة الأخيرة, إلا أنها ليست بالجديدة, كما ليست جديدة مسألة تهريب المازوت الذي تركت له الحكومة الحبل على الغارب, لأكثر من عقد من الزمن, تكافحه بالتأفف تارة, وبالتسويف تارة أخرى, حتى طفح الكيل وأزكمت رائحة الفساد الأنوف, وبدأ الاقتصاد الوطني يميد تحت ثقل لا تحمله أكتاف أقوى الاقتصادات العالمية, فرفعت حكومتنا عن محياها برقع الخفر والحياء, وخرجت إلينا بأرقام شفافة دبل كلوش ومكشكشة, وبدأ التدبيك في الصحافة, فقيل إنه من اصل سبعة ملايين طن تُستورد لسد حاجة الاستهلاك المحلي من المازوت, هناك ما يزيد على مليون طن تهرب الى دول الجوار, بنسبة 15€ وبقيمة 35 مليار ليرة سورية, كيف حسبوها لا ندري, هل تم تسجيلها؟! علماً أن مراقبة يوم واحد للسيارات على خط واحد من خطوط التهريب في منطقة القصير الحدودية وبحسبة بسيطة تستند الى عدد السيارات والموتوسيكلات والسعة النظامية لخزانات وقودها, مضروبة بعدد الرحلات التي تقوم بها يومياً. الحصيلة: سيبدو رقم الحكومة خجولاً جداً. وللعلم يتزايد التهريب طرداً مع تزايد الحديث عن ارتفاع سعر المازوت وسحب الدعم ومكافحة التهريب. وهكذا تحول التهريب في الشهور الأخيرة, من مغامرة لتحقيق الكسب السريع الى صراع شرس على الرزق. وإذا كان لنا أن ندلي بدلونا في بئر المازوت, نقول:
-الحلول الجزئية تفاقم الأزمة لا تحلها ولا تحلحلها, فعندما تخفض مخصصات محطات الوقود, تعلم الحكومة وربما لا تعلم, أن حصة المهربين محفوظة من رأس الكوم, وأصحاب المحطات يقولونها وبالفم الملآن وبكل ثقة, إنهم لا يضحون بزبائنهم من المهربين, الذين يدفعون في اللتر ليرتين أو ثلاثة زيادة, ومن لا يعجبهم من أكوام المواطنين ليشكوا أمرهم لمن يشاءون من موظفي الدولة المحترمين, حماة الحدود والثروة الوطنية, أو لينطحوا رؤوسهم بأقرب حيط. هؤلاء لا يخرجون على القانون, بل القانون يفصل على قياسهم مع كل موسم قرارات جديدة, لا يحيد عن دربهم, ولا يجبرهم على تخطيه أبداً, فالمال يفعل فعله في إحكام شبكات الفساد القائمة على المحاصصة.
-التهريب جزء من مشكلة اقتصادية واجتماعية خطيرة, إذا تُرك مصيبة, وإذا حورب وأغلقت منافذه فمصيبتان, لأن طبقة كبيرة من الشباب العاطل من التعليم والعمل, تعيش تحت خط الفقر, هذه الطبقة يمتصها العمل في التهريب, وتعتاش منه عائلات بأكملها. إذاً فلنتخيل حجم الكارثة لو احكم الخناق على هذه الشريحة الواسعة من الشباب, وتتعرض كغيرها ليل نهار لمغريات الفضائيات, أين ستصرف طاقاتها إذا ما أفلتها الكبت والضغط من كل عقال ومنطق وأخلاق. من يدري فربما عند ذاك ستزدهر صفحات الحوادث, ولن تكفي سوريا حينها جريدة مستقلة متخصصة بالجريمة وثلاث صفحات أسبوعية في الصحف الرسمية, بل وسيتحول برنامج حكم العدالة الإذاعي إلى تلفزيون الواقع يبث 24 على 24 ساعة, أما برنامج الشرطة في خدمة الشعب, فسوف يخصص مساء كل جمعة احتفالية عشر ساعات يعرض فيها أفظع الجرائم وأروع السرقات.
فهل فكر علماء حكومتنا الأشاوس بمشاريع استثمارية في تلك المناطق لاستيعاب بعض ممن أفسدهم التهريب وتعاطي المخدرات, ووسائل الكسب غير المشروع لهؤلاء الشباب القابعين بحكم تردي مؤهلاتهم العلمية خارج أي برنامج إصلاحي مستقبلي؟ نأمل ذلك, ونأمل أيضاً, ألا يكتفي رئيس حكومتنا بالترف اللغوي واعتبار «التهريب خيانة للوطن», إذا كان تهريب المازوت خيانة, فما من أحد يولد خائناً, نحن الذين ندفعه إلى الخيانة... الجوع كافر والفقر في الوطن غربة.
كما نأمل أن يُرأف بحال سكان المناطق الحدودية, والنظر إلى مسألة التهريب كقضية وطنية تستحق جدية وحزماً أكثر, والدولة قادرة على ذلك, وأهل المنطقة يذكّرون المعنيين بالحملة الناجحة التي قام بها المرحوم باسل الأسد العام 1992 لمكافحة تهريب المازوت, والتي قضت على هذه الظاهرة لأكثر من ثلاث سنوات, عادت بعدها على نحو أقوى بفضل الفساد والمفسدين, فلم يعد هناك من رادع ولا من حسيب أو رقيب في مناطق يسرح ويمرح فيها الشباب بمركبات ودراجات نارية دون إجازة سوق, ضمن سباق رالي موت دائم تحت أنظار العيون الساهرة وبرعاية الأيدي الماهرة في قبض المال والأرواح.
وبما أن الرؤية غير متوافرة للجميع, من له أذن فليسمع: إلى متى يستمر تقاسم الحصص, للفاسدين الإثراء, وللشباب الفناء, وللوطن طول الشقاء؟