لا يختلف اثنان على أهمية تجديد الفكر, طالما هذا الفكر يُعنى بالوطن والمجتمع, ومن هنا جاءت فكرة عقد مؤتمر تحت عنوان «تجديد الفكر القومي» دعت إليه الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية. لم تدعُ للمؤتمر بهدف إعادة النظر في جملة من الأفكار وتقييمها, بقدر ما كانت دعوة للخروج بأفكار وتصورات جديدة تصلح للمستقبل... لذا تم إضافة عبارة «المصير العربي» إلى العنوان.
لكن خلال الأيام الأولى للمؤتمر الذي استمر خمسة أيام, لم نسمع من نخبة المفكرين المشاركين أفكاراً حول المستقبل, بقدر ما سمعنا نقدا ذاتياً, تراوح بين التباكي على واقع الحال وبين جلد الذات, فيما يشبه عملية أقرب إلى عصف ذهني, استعصى فهمه أو متابعته على بعض الشباب الذين حضروا كمستمعين, أو متلقين لا أكثر, خصوصا وأن هناك مشاركين مالوا إلى الاستعراض في تعقيبهم على بعض الأوراق, متوخين جذب الانتباه على طريقة برامج الـ«توك شو» التلفزيونية, وبدا واضحا أنهم غير معنيين بطرح أفكار جديدة بقدر إظهار براعتهم باللعب بالكلمات والمصطلحات, ما عقد الأمر على الشباب من الحضور. ففي إحدى الجلسات, حضر مجموعة من طلاب المعهد العالي للعلوم السياسية, وانتظرنا أن يشارك أحدهم بالنقاش بما يكشف عن طريقة تفكيرهم أو على الأقل تفاعلهم مع ما يطرح, لكن أحداً منهم لم يتكلم. كذلك فعلت مجموعة أخرى من طلاب جامعة خاصة في جلسة لاحقة, جلس الطلبة مشدوهين, يتابعون محاضرة فكرية غير قادرين على التفاعل معها. الأمر الذي كشف عن فجوة كبيرة جدا بين الأجيال من حيث اللغة وطرق التعبير, وأيضا من حيث الوعي الفكري وجملة من المفاهيم التقدمية.
هذه الفجوة ليست وليدة الحاضر, وتتسع كلما تباعدت المسافة بين الأجيال, حتى بات من العسير ردمها, أو خرقها بحوار تواصلي, غالبية المشاركين من جيل الآباء الذين حملوا وما زال لواء التقدمية والتحرر, وأسسوا لما وصلت إليه حركة مجتمعاتنا سواء على الصعيد الاجتماعي وتحرر المرأة والتعليم أو على الصعيد النضالي واستمرار وتجدد مفهوم المقاومة جيلا بعد جيل, ومع ذلك لم يتمكن كثير من الشباب إلا أن ينظروا إليهم كجيل آت من ماض بعيد ذاك الذي نقرأ عنه في الكتب أو نشاهده في المسلسلات التاريخية, ليس لعيب في جوهر الفكر, بل لاختلاف لغة التواصل المعرفي والفكري, ما جعل الأفكار حول القومية, كأنها محض تنظير تنتجه النخبة لتعيد استهلاكه في عملية اكتفاء ذاتي, سواء بالبحث الفكري التنظيري أو من خلال واقع عملي تجسد في حركات تحرر ثورية آلت نتائجها إلى أنظمة استثمرتها في خلق واقع راهن غريب عن الأفكار والمبادئ التي انطلقت منها وعلى أساسها الثورات وحركات التحرر.
ومما لا شك فيه أن هذا الواقع الغريب عن الأفكار التي استند إليها أنتج وعيا مختلفاً لدى الشباب, بكل تمثلاته الرديئة والبراغماتية الصرفة, من دون أن يعني ذلك تراجعا في الشعور القومي, وإنما تغيراً في أساليب تعبير لم تعد تنسجم مع التنظير الفكري المبدئي.
فالشباب اليوم يتطلع إلى تنظير سياسي واقتصادي يعينه على تحقيق طموحاته في توسيع هوامش الحريات, والممارسات الديمقراطية, بدون أوهام. فهم ينادون بتوسيع الهوامش لا بنيل الحريات كاملة, وينشدون ممارسات ديمقراطية في ما يخص قضايا معينة, لا تطبيق الديمقراطية كاملة. يريدون تنقلا حراً بين البلدان العربية من دون تأشيرة ورسم مغادرة, ولا يطالبون بوحدة عربية ووطن عربي واحد. يحلمون برفع الحصار عن غزة وتحرير الأراضي المحتلة إلى حدود 1967, ولا يحلمون بتحرير فلسطين كاملة. يطالبون الجامعة العربية بقرارات اقتصادية تسهل التجارة والاستثمار و توفير فرص عمل... الخ من طموحات يعتقدون بإمكان تحققها وفق مبدأ إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع.
هذا هو الجيل الجديد, إنهم أبناء الأمر الواقع, يميلون إلى البحث عن طرق لكيفية التعامل مع الواقع, وليسوا أنصار خلق واقع جديد, أو تغييره... وهذا ما فرز أفكاراً ولغة ومصطلحات مغايرة... ربما لم تتبلور بعد كفكر أو حتى كخطاب لكنها موجودة, وتستدعي التوقف عندها ودراستها إذا كنا فعلا نريد تجديد الفكر القومي, وإلا كيف يمكن الحديث عن تجديد مع وجود قطيعة وانعدام تواصل بين الأجيال؟ فالتأسيس لأفكار جديدة يحتاج إلى هضم تجربة الماضي, ولن يأتي هذا من خلال التبكيت وجلد الذات, ولا من خلال التعظيم والتفخيم بالمنجزات, بل من خلال قراءة موضوعية لتجارب الماضي, وتوصيف لمعطيات الراهن, بلغة معاصرة وحيوية, تسهل التواصل وتتيح الفرصة أمام الشباب للمشاركة في النقاش وطرح أفكارهم, مهما بدت سطحية أو حتى ساذجة, لأنهم جزء من الواقع الراهن بما يحملونه من ثقافة وأفكار, غثة كانت أو ثمينة, فهم المعنيون بالمستقبل كأساس للتغيير... وإلا فإن كل النقاشات بين النخبة لن تتجاوز حدود القاعة ولا صفحات الكتب التي تسطر فيها.
لاشك في أن فكرة عقد مؤتمر لتجديد الفكر القومي فكرة جيدة وجسورة من حيث الدعوة إلى إعادة النظر بالموقف من القومية العربية, بعدما تعرضت له من حملات تهشيم وتشويه وتسخيف, فالشعور القومي العربي واقع لا يمكن لأحد تجاهله أو تجاوزه, لكن كيف نجعل من هذا الشعور منطلقاً لبناء مجتمعات عربية متماسكة. هذه هي القضية التي تحتاج إلى إنتاج أفكار خلاقة.