بالبراعة ذاتها التي كان يعد بها «باريس» برامجه الترفيهية في محطة التلفزيون الاميركية "أي.بي.سي" كان يمارس قتل أشخاص مستهدفين لمصلحة وكالة الاستخبارات الاميركية. في فيلم "العقل الخطر" المقتبس عن يوميات "السيد باريس" ولقاءاته الصحفية بحكم عمله كمعد تلفزيوني نهاراً، نكتشف بأنه عميل مستقل للمخابرات ليلاً.
فكرة الفيلم الذي لعب بطولته جورج كلوني ودرو بريمور وجوليا روبرتس، لا تقدم فقط كيف تستخدم المخابرات الإعلام كتغطية مثالية على نشاطاتها السرية، بل إنها تتطرق أيضاً إلى الكشف عن القاسم المشترك بين الإعلام التافه والقتل المأجور. فبطل الفيلم الذي وصف بـ«النذل والعدائي»، امتلك أيضاً مواهب فائقة في ابتكار برامج ترفيهية شعبية سخيفة، لاقت انتقادات واسعة من المختصين والنقاد إلا أن معدها ومقدمها نال شهرة واسعة لأنه يعرف ما يريده المشاهدون. فمثلاً في برنامج مسابقات للكشف عن المواهب الغنائية على غرار ما عرفناه من برامج مستنسخة بالعربي مثل "السوبر ستار"، فضل السيد باريس الكف عن بذل جهد مرهق في البحث عن فنانين جيدين، واختار تقديم الجميع إلى الجمهور ليقوم بالاختيار وقتل السيئين بالسخرية والتهكم. كانت النتائج دوما تختزل بالسؤال، من كان يظن أن هناك هذا العدد الكبير من الاميركيين ينتظرون فرصة للظهور على التلفزيون وجعل أنفسهم أضحوكة؟!
الطريف أن فكرة القتل، خطرت للسيد باريس لدى تخيل نفسه يطلق النار على متسابقة لم تعجبه بالبرود ذاته الذي يطلقه على الشيوعيين المستهدفين من المخابرات الاميركية.
وفيما ينال البرنامج رواجاً واسعاً يواجه معده اتهاماً بأنه الأكثر خداعاً واحتقاراً وصاحب أفكار كريهة، لأنه يجلب أشخاصاً يسعون إلى قليل من الانتباه ليقوم بتحطيمهم... فهو بالنهاية شخص منحط، لا يحق له التعالي على البشر مهما بلغ من شهرة.
الفيلم ليس جديداً، لكن مشاهدته الآن بعد استفحال المد الفضائي العربي، وتفشي التفاهة وبرامج الترفيه القاتلة، تقودنا إلى التأمل في سر الانتشار والشهرة التي تنالها برامج مشابهة مستنسخة في عالمنا العربي على الرغم من الانتقادات الكثيرة لها، وأيضا سر تبوأ إعلاميين وإعلاميات من نمط «السيد باريس» مواقع الصدارة على الشاشات!!
فهل السر في المخابرات أيضاً وراء تركهم يمارسون بكل راحة ضمير نشاطهم في غسل الأدمغة، عبر ضخ كميات هائلة من الثرثرة الفارغة على مدار الساعة، حتى كاد الروموت كونترول يفقد ميزاته الأسطورية في نقل المشاهد من فضاء إلى فضاء بكبسة زر، هذه الكبسة التي هددت التلفزيونات الرسمية مطلع التسعينيات إذا استمرت بسياستها الإعلامية التعبوية المتجهمة!!
المضحك المبكي أن التلفزيونات الرسمية كناطق بلسان الأنظمة عجزت عن تغيير طبيعتها كأداة تبجيل وتلميع للسلطة، لكنها راهنت على اللحاق بركب التهافت الإعلامي المستقل حتى سبقته بالتهتك كوجه آخر لسياسات مبتذلة، وهكذا مع اقترابنا من نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كثرت لدينا الفضائيات وقلّت الخيارات، ومهما استنجد المشاهد بأزرار الريموت، سيجد نفسه يتخبط في عباب فضاء مفتوح على فوضى غير بناءة، تستهدف عقله بالذات وتعمل على فعسه كل يوم آلاف المرات... فمن برامج الشعوذة والسحر والتداوي بالأعشاب إلى الفنون الخليعة بتنويعاتها الاستهلاكية، مروراً بالبرامج الدينية المتطرفة بتعدديتها المذهبية والطائفية، وبرامج التسليع الثقافي بسطحيتها المتعمدة، وصولاً إلى البرامج السياسية والإخبارية التي تحجب ما تشاء وتنفخ من الأحداث ما تشاؤه القوى الإقليمية والدولية في خلطة إعلامية تنضح بالسم الزعاف، تنهل منها جماهير المشاهدين مدفوعة بوهم البحث عن بارقة أمل لحل قضاياهم، ما كبر منها كقضية تحرير فلسطين والعراق وإحلال الديمقراطية، أو ما صغر منها كالتخلص من الوزن الزائد وبثور الأنف وعودة الشيخ إلى صباه.
خلطة أو خلطبيطة إعلامية... سياسية... اجتماعية... ليست سوى «قتل مأجور» يمارسه «عقل خطر» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، تجد مبرراتها في واقع عربي مأزوم، تبدو فيه مقولة «هكذا واقع ينتج هكذا إعلام» من المسلمات، بكل ما تنطوي عليه من تعميم ومغالطة؛ إذ إن الواقع الذي نراه في إعلامنا ليس انعكاساً حقيقياً لما يدور حولنا، بل هو واقع مجتزأ ومخادع ترسمه سياسات الأنظمة، وتستخدم الرساميل وأجهزة الاستخبارات، لتكريسها على أنها واقع لا برء منه كإحدى وسائل شرعنة بقائها، وكدجاجة تبيض ذهباً.
فيلم "العقل الخطر" ينبه إلى خطورة تغلغل المخابرات في الإعلام، بقول ناقدة إعلامية عن «السيد باريس» بأنه يسيء الى المجتمع الاميركي أكثر مما يقدر. والسؤال هل النجاح في إصابة الأهداف السياسية تعفي ولو جزئيا من المسؤولية عن جريمة ترويج التفاهة وتكريس الانحطاط من تطويب نجوم عديمي الأخلاق والإحساس الإنساني، يفرضون كقدوة مؤثرة تسوغ ارتجاج القيم واللياقة الاجتماعية والإنسانية؟
سؤال مازال بعيدا عن دائرة الطرح في عالمنا العربي، لأن مجتمعات مذعنة للاستبداد بكامل تنويعاته وتدرجاته السلطوية والفكرية، ليس بإمكانها سوى السباحة مع تيار "العقل الخطر" الجارف... ومغالبة الضجر واليأس بكبسة زر.