خلال عقد الثمانينات من القرن المنصرم، وتحت وقع انخفاض معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وانبعاث النبوءات الديموغرافية التي كانت تفيد أن الفلسطينيين سيصبحون أكثرية فوق أرض فلسطين التاريخية مع نهاية القرن العشرين، بدأت أوساط جريئة من داخل الفكر الديموغرافي الاسرائيلي بالترويج للفكرة التي تقول إن التوقعات الديموغرافية باتت تفرض على اسرائيل إعادة حساباتها وتلافي الكارثة الديموغرافية المتوقعة من خلال الانسحاب من المناطق (أي من الضفة الغربية وقطاع غزة)، والانكفاء داخل الخط الأخضر حيث يشكل اليهود أغلبية مطلقة تضمن سلامة المشروع الصهيوني الذي لا بد له ان يتأذى ويتعرض للانهيار في حالة الإصرار على سياسة ضمّ وإلحاق هذه المناطق التي تمتاز بكثافة فلسطينية عالية، إضافة إلى نسبة تكاثر طبيعي هي الأعلى في العالم.
وعليه فالمقدس وفق هذا المفهوم بات يرتبط من وجهة نظر سلامة الموقف الصهيوني بفكرة ضمان الاكثرية اليهودية فوق جزء من ارض اسرائيل، وليس بفكرة ارض اسرائيل. ووفق هذا المنظور الذي بات يعطي الأولوية للديموغرافيا على الجغرافيا، فإن القول بوحدة القدس والإصرار على مقولة العاصمة الأبدية لاسرائيل واستمرار التمسك بسياسة ضم القدس الشرقية لم يعد من المقدس في شيء لأن القدس الشرقية التي تشير الإحصاءات الاسرائيلية التي أفصح عنها شيمون بيريز اخيراً بأنها تضمّ نحو 240 ألف فلسطيني سوف تشكل في حال ضمها إلى إسرائيل بؤرة ديموغرافية شديدة الخطورة على دولة اليهود، وبالتالي سوف تزيد من المخاطر الديموغرافية لعرب 48 الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية وتدعم فيالقهم بأكثر من 200 الف فلسطيني على جبهة الديموغرافية مع الاسرائيليين داخل الخط الأخضر وفق تقدير الخبير الاستراتيجي اللواء (متقاعد) شلومو غازيت في معرض رده الذي اتصف بالسخرية عام 2001 من الوزير الاسرائيلي المكلف بملف القدس يهودا أولمرت.
كان هذا بالنسبة إلى المناطق، أي إلى غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية التي لم يعد مشروع ضمها مشروعاً مقدساً يخدم في شيء الفكرة الصهيونية، أو المشروع الصهيوني بحسب دعاة إعطاء الأولوية للديموغرافيا، وليس للجغرافيا، أما بالنسبة للأراضي التي تدخل ضمن نطاق الخط الأخضر، أي ضمن حدود إسرائيل المعترف بها دولياً، فيمكن القول إن قطاعات منها باتت مشمولة بفكرة التنازلات الجغرافية المؤلمة التي لم تعد تقتصر على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل عام 1967، وإنما الأراضي الواقعة داخل الخط الأخضر التي فيها كثافة سكانية من عرب 48، ونقصد بذلك الأراضي المحاذية للضفة الغربية مثل المثلث الصغير ووادي عارة حيث يتجمع أكثر من 300 الف فلسطيني من حاملي الجنسية الاسرائيلية، فبحسب أقطاب هذا التيار الذي بات يعطي الاولوية للديموغرافيا على حساب الجغرافيا، فإن ضمانة مستقبل اسرائيل كدولة يهودية باتت توجب على اسرائيل التنازل عن هذه المناطق ذات الكثافة السكانية العربية وإلحاقها ارضا وسكانا بالدولة الفلسطينية المقبلة بدعوى ان هذا الاجراء في حال كتب له التحقق سيؤدي إلى خسارة الكتلة السكانية العربية من حاملي الجنسية الاسرائيلية نحو 300 الف نسمة وفق تقديرات عام 2001 ونحو 600 ألف نسمة وفق توقعات عام 2020، ولعل هذه الدعوة الاخيرة المتعلقة بفكرة التنازل عن اراض داخل الخط الأخضر والتي حظيت بموافقة وتأكيد العديد من الخبراء ومراكز البحث الديموغرافي في اسرائيل، لخير دليل على عمق الازمة التي بدأ يعيشها الكيان الصهيوني على جبهة المواجهة الديموغرافية مع الفلسطينيين منذ بداية الالفية الجديدة.