اللواء غازي كنعان في ذمة التاريخ، غاب الرجل بشكل مفاجئ وفي ظروف دراماتيكية، وطوى بغيابه صفحات هامة من تاريخ لبنان السياسي والامني، كما غابت معه كل اسرار العلاقات السورية - اللبنانية، وخفايا السياسة اللبنانية، ودور مختلف رموزها وسلوكياتهم من اجل الصعود الى السلطة او من اجل تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب الشعب والوطن.
غياب غازي كنعان المفاجئ، عن طريق الانتحار «المفترض» سيرخي بظلاله على فترة هامة من تاريخ لبنان، تزيد على عقدين، مرّ فيها البلد بثلاث مراحل هامة لها ابعادها الداخلية، وعلى تطورات الصراع العربي - الاسرائيلي وكذلك على مستقبل العلاقات بين سوريا ولبنان لسنوات عديدة مقبلة. لا بدّ قبل الدخول في تحليل الأبعاد الثلاثة من تسجيل عدد من الملاحظات:
اولاً: عرفت غازي كنعان منذ اكثر من عقدين - وربطتني به صداقة شخصية ولا اقول علاقة كتلك التي ارتبط بها بالآخرين، كانت علاقة زمالة وتحولت الى صداقة، تتميّز بالود والاحترام المتبادل خارج كل اطر ومفاعيل موقع النفوذ المطلق الذي كان يشغله كرئيس للجهاز الأمني السوري والذي كان يهيمن من خلاله على كل مقدرات لبنان السياسية والامنية والاقتصادية والقضائية.
عرفت الرجل بشخصيته القوية، وبحكمته وعقلانيته الراجحتين، وبشجاعته الخارقة مادياً وأدبياً، وباعتدال آرائه وسلوكيته التي تفيض بالاتزان والثقة، بشكل يجعلك تشعر وانت معه بأن الامور حوله تسير بانتظام ووفق برنامج احكمت صياغته.
يصعب عليّ في معرض استعادتي لمكونات شخصيته البارزة وسلوكيته العقلانية الفذّة ان أصدق ان غازي كنعان الذي عرفته قد أقدم على الانتحار.
ثانياً: لا يمكن الربط بين غازي كنعان وجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فقد ترك لبنان في العام 2002 وتولى رستم غزالة مسؤولية ادارة «الملف اللبناني»: لم يتعاط غازي كنعان بعد عودته الى دمشق في الشأن اللبناني من قريب او بعيد، ولم يكن مسموحاً له ذلك بأوامر صادرة مباشرة عن الرئاسة السورية، وهذا ما اكده هو شخصياً للعديد من الاصدقاء الذين زاروه في دمشق، كما اكده التصريح «الشهير» الذي ادلى به نائب رئيس مجلس النواب الاسبق ايلي الفرزلي بعد زيارته، لدمشق واجتماعه بالرئيس الاسد، والذي قال فيه «ان الرئيس الأسد قد ابلغني ان العميد رستم غزالة هو بوابة دمشق من لبنان».
ومن هنا فإنه لا يمكن الربط بين التحقيق الدولي والانتحار «المفترض» خصوصاً وان التحقيق لا يمكن ان يرتب اية مسؤوليات على اخطاء سياسية أو أمنية يمكن ان يكون قد ارتكبها غازي كنعان اثناء ممارسته لمهامه في لبنان، وفي فترة سبقت عملية اغتيال الرئيس الحريري بثلاث سنوات.
ثالثاً: تطرح ظروف الاعلان عن انتحار غازي كنعان اسئلة عديدة، لا يمكن ان تتوفر لها اجوبة في القريب العاجل. ان التصريح الذي ادلى به غازي كنعان لصوت لبنان قبل اعلان انتحاره والذي علّق به على ما نقلته محطة «تلفزيون الجديد» وخصوصاً لجهة قوله «اعتقد هذا آخر تصريح يمكن ان اعطيه». لا تستدعي الظروف الطارئة التي سبقت اعلان نبأ الانتحار انه يقدم غازي كنعان بما عرف عنه من مواصفات شخصية، على قتل نفسه، اقتصاصاً منها على كارثة تسبّب بها، أو لعمل مشين ارتكبه. فالخبر الذي بثته المحطة يحمل في طياته من عناصر الاثارة والتضخيم ما يجعله بعيداً عن الواقع، ومحط رفض وسخرية من كل ذي عقل او بصيرة.
رابعاً: في خضم اجواء الشك والغموض التي تلف غياب غازي كنعان، فإنه من غير المسموح لأحد ركوب المغامرة والتخمين حول ما حدث مع غازي كنعان بعد ادلائه بالتصريح الاذاعي. وتدعو الحكومة الى استحضار المثل الصيني القديم «صدق نصف ما تراه عيناك»، وان الزمن وحده كفيل بالكشف عن الحقيقة. ما حدث يدفعني الى استعادة ما كان يقوله لي احد القادة العسكريين المتقدمين عندما كنت لا أزال ضابطاً يافعاً «الله استر آخرتنا».
في العودة الى المحطات الثلاث البارزة التي ميّزت وجود غازي كنعان وادائه كرئيس لجهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية، فقد تميزت الفترة الأولى بالدور الشخصي الذي لعبه غازي كنعان والمخاطر التي واجهها من اجل تثبيت الامن في بيروت وفي مناطق لبنانية، كان ابرزها تخليص مدينة طرابلس من هيمنة عرفات ومن ثم من اجواء الرعب التي سيطرت عليها في المرحلة اللاحقة. بعد الانسحاب الاسرائيلي من بيروت وضواحيها وبعد سيطرة ميليشيات امل والاشتراكي على العاصمة، وقعت المدينة في حالة من الفوضى، وضحية لعمليات القتل والنهب وامتهان الكرامات التي قامت بها الشراذم المسلحة والتي يقودها مجرمون وسارقون محترفون. لقد نزل كنعان الى الشارع بمفرده من اجل مواجهة هذا الوضع الخطير ولملمة الوضع الأمني من شارع إلى آخر، ولم يكن له معين في اداء هذه المهمة حيث لم يكن هناك اي وجود لقوات امنية لبنانية، فيما كانت القوات السورية لا تزال في المديرج وصوفر.
وكان الانجاز الاكبر على المستويين اللبناني والقومي تبني غازي كنعان الداعم المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي، حيث تعهّد وشارك في تنظيم اعمال المقاومة التي اضطلعت بها الاحزاب اللبنانية كالحزب السوري القومي والحزب الشيوعي، ومن ثم كان له دور اساسي في دعم ورعاية عمليات المقاومة، وصيانة مسارها، وتأمين الظروف المؤاتية لتحظى بتأييد جامع من كل اللبنانيين عندما انتقلت الامانة الى حزب الله.
وكانت المرحلة الثالثة، في ظل جمهورية الطائف، حيث لعب غازي كنعان دوراً تأسيسياً هاماً، سمح بإقامة الدولة وحماية مشروع بناء مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات العسكرية والامنية، وتحقيق السلم الاهلي الذي لا يمكن ان تقوم سلطة او مؤسسات في غيابه. لكن لا بدّ من الاعتراف بما تميزت به هذه المرحلة من اخطاء سياسية وما شهدته من فساد. هذه المرحلة بالذات هي المسؤولة عن تحوّل مسار الدولة من المسار الديمقراطي الى المسار الامني، حيث شارك اللبنانيون والسوريون في اضطهاد كل قوى المعارضة، وفي الهيمنة على كل مؤسسات الدولة وافسادها وتسخيرها لخدمة مصالحهم الخاصة وتعميق النفوذ والوجود السوريين في لبنان.
ان جريمة اغتيال الرئيس الحريري ما هي الاّ نتاج طبيعي لحالة الانحراف السياسي والامني والتي يتحمل مسؤوليتها هذا النظام الامني السوري - اللبناني، دون البحث او التعمق في اسباب الجريمة او هوية الفاعلين او المخططين لها.
لكن يبقى من الصعب جداً الربط ما بين الجريمة وانتحار غازي كنعان «المفترض» فالزمن وحده كفيل بالكشف عن حقيقة الحدثين. ويبقى الامل ان يكون الراحل قد ترك خلفه بعض المذكرات التي يمكن ان تضيء الطريق امام المؤرخين والباحثين الذين سيعملون مستقبلاً على كتابة وتحليل تاريخ لبنان في اخطر مرحلة من تاريخه الحديث.
التاريخ وحده قادر على حسم الجدل والتجاذب السياسي من خلال الكشف عن الحقيقة، وحكم التاريخ لا يزوّر ولا يرد.