ينقسم "خطاب" الدكتور بشار الأسد، خلال المقابلة التي اجراها امس الاول مع الـC.N.N، والواضح انها حصلت قبل خبر وفاة الجنرال غازي كنعان،... ينقسم الى قسمين:

القسم اللبناني، الذي بسبب تطورات الوضع اللبناني، وفي القلب منه الآن عمل لجنة التحقيق الدولية التي يرأسها القاضي ديتليف ميليس، يبدو مختلفاً عن القسم الآخر الذي يشمل كل المواضيع غير اللبنانية وخصوصا الوضع العراقي. ففي الشأن اللبناني هناك موضوعيا قدر لا يمكن تلافيه من الحرج نتيجة كثافة الضغط الاتهامي، سواء في اسئلة المقابلة، ام في "الجو" الذي تحمله المقابلة معها من "خارجها" إذا جاز التعبير.

لكن رغم ذلك لا شك ان الكلمة السياسية – المفتاح الجديدة نوعيا في الموضوع اللبناني هي كلمة "الخيانة"، كمفهوم يستخدمه الرئيس الاسد، بما يتيح للمرة الاولى بشكل قطعي تعامله على مسافة من أي احتمال تهمة يوجهها تقرير ميليس الى "مواطن سوري"، باعتبار – في هذه الحالة – ان هذا "المواطن" تصرف كخائن لقيادته وللرئيس السوري بالذات، مما يستدعي "عقابه". وهي الكلمة الثانية الكبيرة التي يحملها القسم اللبناني من المقابلة. من الواضح ان الرئيس السوري حتى لو لم ينف امكان قبول تنفيذ "عقوبة الخائن" في الخارج، إلا انه يريدها بل على الأرجح يفضل تنفيذها في الداخل.

هكذا إذن يعلن الرئيس السوري – إذا اقتنع بعدم تسييس التهمة في حال صدورها – ان الدولة السورية جاهزة مفهومياً للتعاطي مع اتهام "جنائي" لا "سياسي" من هذا النوع لمسؤول ما في اجهزتها: الخيانة. بهذا يكون "مفهوم" حل المعضلة من الزاوية السورية جاهزاً... اذا بقي "تقرير ميليس"، بما يمثله في "النظام العالمي" الذي اعطاه اهميته اصلا، ضمن السقف الذي طرحه الرئيس السوري.

هذا "مفهوم" في حال اتجهت السياسة الاميركية عبر التقرير وبعده الى اولوية استقرار المنطقة، بما فيها سوريا، سيكون "مفهوما" مفتاحا للمرحلة المقبلة...

القسم الثاني واهم ما فيه الموضوع العراقي في المقابلة، بل يمكن تسميته بكامله "القسم العراقي" حتى لو تضمن مواضيع غير عراقية، كفلسطين واسرائيل والوضع الداخلي السوري... هذا القسم كان الرئيس بشار الاسد أقوى فيه. لا بل يمكن القول ان الاسد يعطي الانطباع فيه انه يشعر بقوة ذاتية لسياسة نظامه فيه. والفكرة المفتاح التي تدل على قدر من هذا الاحساس الذاتي بالقوة هو حين لم يتردد في ان يقول للصحافية الاميركية (من اصل ايراني) ردا على سؤالها، ان والده الرئيس حافظ الاسد لم يؤيد والد الرئيس الاميركي الحالي الرئيس جورج بوش عام 1990 في حرب الخليج ضد صدام حسين، وإنما ايد تحرير الكويت.

كان هذا "التصحيح" الذي قام به الدكتور الأسد، بين عدم تأييد الرئيس الاميركي وتأييد تحرير الكويت، عنوانا لرسالة "قوة" ما...

اما العنوان الثاني لـ"القوة" في الكلام عن العراق، فكان اعلان الدكتور الأسد انه يعتبر "إرهابا" العمليات ضد المدنيين وليس العمليات ضد الجيشين الاميركي والبريطاني في العراق. هذا ايضا فارق حرص عليه في "القسم العراقي". مع انه من المفترض امام مأزقه العام ان يكون اكثر ليونة فيه اذا كان الهدف من جهته هو فتح الحوار الايجابي مع واشنطن. (وفي سياق "منطق" الخطاب الرئاسي في المقابلة بدا الموضوع الفلسطيني عراقياً... ولربما ساهم في ذلك ان الصحافية الاميركية لم تكن مستعدة للموضوع الفلسطيني بالشكل المكثف الذي كانت مستعدة فيه، للموضوع اللبناني، اولا، ثم العراقي).

حتى سقوط بغداد في 9 نيسان 2005، كان بشار الاسد وريثا لمجد لم يقاتل لأجله. بين ما تركه الوالد، وبين ما ناله الابن كان سلطة، بل امبراطورية "صغيرة" من دولتين... استتبت له مقاليدها.

بعد 9 نيسان، الحدث الذي لم يدخل ربما في حسبان الوالد المؤسس، كان على الورثة، للمرة الاولى منذ غياب المؤسس، لا فقط ان يفكروا وحدهم في مواجهة أزمة لا نصائح، بل توصيات مسبقة بمعالجتها عكس ما فعل الرئيس الراحل حيال مسائل اخرى داخلية وخارجية لا زال الورثة يحكمون عبرها... بل ايضا بعد سقوط بغداد كان على الورثة ان يقاتلوا للمرة الاولى في الدفاع عما ورثوه.

منذ ذلك الحين يقاتل بشار الاسد... في ما يبدو انه قتال "تأسيسي" لأن "الحرب" هذه المرة تطرح لا مصير الامبراطورية فحسب بل النظام نفسه.

كان قراراه القتالي الاول في العراق. وقف علنا ضد المشروع الاميركي قبل الحرب، ثم تابع بعد غزو العراق المواجهة... علنا أيضا. صحيح أنه ينفي انه مسؤول عن تسهيل دخول المقاتلين ضد الاحتلال الاميركي الى العراق، لكنه يعلن كل يوم عبر وسائل إعلامه معظم الأحيان، وبتصريحات شخصية بعض الاحيان، انه ضد الحرب التي حصلت وبالتالي ضد الاحتلال حتى لو تعامل مع بعض نتائجها. وفي هذا المجال، وعلى الرغم من كل مظاهر الضعف الموضوعية في موقع النظام السياسي السوري، فمن المثير، الانتباه الى ان رئيس الجمهورية العراقية جلال الطالباني لم يستقبل بعد في دمشق، لا لأن الطالباني لم يرغب، بل – وهنا المثير – لأن الرئيس بشار الاسد لم يوافق على الزيارة... فيما قبل فقط زيارة رئيس الوزراء: هذا أحد أشكال القتال.

خسرت "الامبراطورية" لبنان. لكن النظام السياسي السوري منذ صدور القرار 1559 يدافع عن نفسه، عن مصيره في دمشق لا في لبنان، حتى لو حاول ان يؤخر الخروج من لبنان، لأنه يعرف، منذ سقوط بغداد، ان معركة التغيير في الشرق الاوسط تطاله في دمشق. صحيح ايضا انه أخطأ على الأرجح في عدم الإسراع في وضع خطة انسحاب من لبنان فور حصول "إنذار" 9 نيسان الصارخ، مما جعل خسارته في لبنان اكثر خطورة عليه الا أنه كان يتصرف على اساس انه خارج من لبنان بعد صدور القرار 1559. لقد شاعت فترة غير قصيرة في بعض "البروباغندا" اللبنانية، نظرية متسرعة وتبسيطية هي "نظرية الغباء" في الحكم على سلوك النظام السياسي السوري في لبنان منذ القرار 1559. ربما تكون هناك أخطاء فادحة "موضعية" حصلت، لكن على الأرجح فإن نظرية "لا خيار آخر" من وجهة نظر رؤية النظام لمصالحه يجب ان تكون بديلا عن النظرية الاولى في تقييم القرار القتالي للقيادة السورية انطلاقا اساساً من الوضع العراقي... وفي العراق.

مصادر
النهار (لبنان)