من المؤكد حتى اللحظة، ان ازمة الاعلام السوري في تفاقم متواصل، وعندما نقول هذا، لا نقصد فقط تلك القناعة التي تشكلت منذ سنوات ليست بالقليلة، لدى القيادة السياسية في الدولة، تجاه عجز الاعلام الرسمي عن الدفاع امام الهجوم الخارجي الكاسح، وانما ايضا تلك القناعة التي تشكلت منذ عقود، لدى المواطن، عن أن اعلام الدولة، لم يكن الا حاجبا وحاجزا للحقيقة، وتحديدا على مستوى المعلومة الداخلية الاقتصادية منها أو الاجتماعية.
ومع صدور القرار 1559 ومن ثم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وبدء «الحرب» الاعلامية على سورية، توقعنا ان يشهد اعلامها هزة شديدة، تخرجها من البيئة التي تعمل بها حاليا، الى بيئة جديدة تضعها على السكة الصحيحة، وتوقعنا ان نرى زخما في اتجاه اصلاح هذا الخلل القاتل، الا ان الامور في مجملها، ظلت كما هي مع استثناءات هنا وهناك.
بالطبع لا يصح التعميم، ولا يمكن القفز من فوق تلك المتغيرات التي طرأت على اعلامنا الرسمي، سواء في الصحف الوطنية الثلاث، او على التلفزيون، لان هذه الوسائل، باتت اليوم تفتح ملفات هي من الهموم اليومية للمواطن، غير ان السؤال هو: من يقرأ او يشاهد ما تقدمه هذه الوسائل؟
ان اكثر ما تتجلى ازمة الاعلام السوري الرسمي فيه، ليس في المضمون الذي يبدو وكأنه يتحسن، وانما في الشكل والتقديم، وقبل هذا، في الثقة المفقودة بين المرسل والمتلقي، جراء غياب المعلومة الصحيحة.
وعلى اعتبار ان الفصل بين السياسة والاقتصاد، انما هو ضرب من الخيال، فإن الصورة التي تشكلت لسنوات طويلة عن سورية في الخارج، وان كانت ذات ابعاد سياسية، انما هي ذات الصورة التي تدفع الى احجام المستثمرين، بل باتت القاعدة تقول: «قبل ان تطلبوا من المستثمرين الاجانب القدوم الى سورية، اعملوا على اعادة الاموال السورية المهاجرة التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات».
لا نريد هنا ان نظلم القائمين على الاعلام الرسمي، وانما الدفع باتجاه خلق بيئة جديدة تسمح لهؤلاء من استثمار «ابداعاتهم» ان وجدت، لان تغيير الاشخاص او الطرابيش، وسط شروط العمل الحالية، لن يترك ذاك الاثر المرجو، وان كان العامل الشخصي، مازال يلعب دورا اساسيا في سورية.
تركيزنا على تغيير البيئة مرده، ان الاعلام الرسمي، بوسائله المقروءة او المشاهدة او المسموعة، لا يتعدى حتى اللحظة، كونه وعاء لنقل المعلومة المشذبة, وهذا الاعلام، لم يعد وحده من يحتكر السوق المحلية، حيث بات الباب مواربا امام الاعلام الخاص، وبالتالي فإن تغيير بيئة العمل ينعكس ايجابا او سلبا على كل من يعمل في الاعلام المحلي.
واذا ما اردنا ان نـتحدث بشيء من المباشرة، نتساءل حول ازمة المازوت التي تضرب بالبلاد منذ اكثر من شهرين، هل هي حقا ناتجة عن عمليات التهريب الى الدول المجاورة، ام عن عدم زيادة المستورد منه رغم النمو في قطاعي الصناعة والنقل، ام عن تصدير كميات كبيرة منه الى العراق؟ وبعد كل ذلك هل نحمل المسؤولية كلها لعمليات التهريب، بسبب دعم الدولة لسعر المازوت، هو مقدمة غير مباشرة لزيادة سعر هذه المادة؟ وهي السيمفونية التي بدأت تعزف عليها اخيرا بعض الصحف الرسمية.
ومثال ثان، في لقائه مع الصحافيين العرب والاجانب على هامش مهرجان طريق الحرير، تحدث رئيس مجلس الوزراء محمد ناجي عطري لنحو ساعتين، ومن جملة ما اكد عليه ان «رؤوس المثلث الذهبي التي تعمل الحكومة على تفعيلها بالتوازي هي السلام الشامل، والتنمية، والديموقراطية»، وتطرق ايضا الى التهديدات الاميركية القادمة عبر البوابة العراقية، والى «ارتياح سورية» لسير التحقيقات في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ما لم تبن نتائجها على اجراءات «سياسية وليست قضائية»، اضافة الى «اقتراب موعد اصدار قانون للاحزاب في البلاد».
وغابت كل العناوين السابقة، وغيرها الكثير، مما يصلح كمانشيتات للصحافة، عن الخبر الرسمي، وتم الاستعاضة عنها بعبارات حفظها المواطن عن ظهر قلب، فمن كان المسؤول عن صناعة هذا الخبر.
ومثال ثالث، ذلك المؤتمر الصحافي الذي عقده نائب رئيس الوزراء عبد الله الدردري، وتم الاعلان من خلاله عن حزمة من الاصلاحات المالية المهمة جدا، والمشكلة هنا لم تكن فيما تم اعلانه خلال المؤتمر الصحافي، اذ توفر الخبر بكثرة، وانما كان في التوقيت، حيث فسر المراقبون الامر على انه محاولة للتغطية على ما كان يقوم به القاضي الالماني ديتليف ميليس من استماع لشهود سوريين في منتجع "مونتيروزا".
والخسارة هنا جاءت مرتين، الاولى ان الناس كانوا ينـتظرون ان يسمعوا من اعلامهم وليس من الاعلام اللبناني، ما يحصل في قضية لا تؤثر على الوضع الاقتصادي للبلاد فقط، وانما في قضية ادعى البعض انها باتت سببا لتأجيل الكثير من حالات الزواج.
والخسارة الثانية، ان كم الاصلاحات التي اطلقها الدردري، لم تجد صداها لا في الاعلام المحلي ولا الخارجي، فمن سيغطي مؤتمرا يعقد في السابعة مساء، وفي مثل هذه الظروف.
ومثال رابع، أعلن مساعد وزير الخزانة الاميركي المكلّف شؤون الإرهاب والجرائم المالية ستيوارت ليفي في 26 من شهر سبتمبر الماضي، أن «دمشق حوّلت إلى العراق 262 مليون دولار، من الاموال التي كانت مجمدة في المصرف التجاري السوري».
ورغم ان عدم اعادة هذه الاموال، كان من ابرز اسباب توتر العلاقات السورية-العراقية ومن ورائها العلاقات السورية-الاميركية، ورغم ان اعادتها، تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تصويب ما تخرب في هذه العلاقات، الا ان أي مسؤول سوري والى تاريخ اليوم، لم يعلق ولم يؤكد ولم ينف الخبر، في الوقت الذي كان من المفترض به ان تبدأ حملة اعلامية حول مدى التجاوب والتعاون السوري مع الجهود الدافعة الى اعادة اعمار العراق.
واخيرا فاجأ وزير الداخلية اللواء غازي كنعان، ليس فقط السوريين ومن ورائهم اللبنانيون، وانما كل المتابعين لملف الشرق الاوسط على المستوى العالمي، بـ «انتحاره»، وسجل للاعلام الرسمي سرعته في اعلان الخبر، وكان هو المصدر الاول الذي نشره، على خلاف العادة سابقا.
ولكن، وبسبب فقدان الثقة التي تحدثنا عنها، لم يصدق معظم المراقبين، خصوصا في الخارج، ان كنعان انتحر، و ما زاد الامر تعقيدا، ان اللجنة القضائية والشرعية التي كُلفت بالتحقيق في عملية الانتحار، اقتصر دورها على الفصل بأن الرجل انتحر ام لم ينحر، وكأنه شخص عادي، دون الخوض لا من قريب ولا من بعيد بالاسباب التي دفعته الى الانتحار.
وفي المقابل اتجهت الماكينة الرسمية في تحميل الاعلام اللبناني مسؤولية الانتحار، متناسية ان الامر لو كان بهذه البساطة لانتحر معظم المسؤولين في دول العالم، وفي مقدمها الديموقراطية منها، حيث يكاد لا ينجو أي مسؤول من الانتقاد اللاذع على مدار الساعة.
ان ايراد الامثلة السابقة، وهي نقطة من بحر الانتقادات اليومية التي يمكن ان توجه لاداء الجهة الصانعة للسياسة الاعلامية السورية، ليس المقصود منه فقط التـنبيه الى ما يحيق بسورية من خسائر، على مستوى المواطن المحلي، وانما التحذير ايضا من حجم التشويه في الصورة التي يتم تشكيلها في الخارج عن البلاد والنظام.
واذا ما كانت سورية تريد تحسين صورتها، لابد لها وان تخلق اهدافا جديدة لاعلامها العام او الخاص، ففي الوقت الذي تتغنى فيه انها من اكثر الدول امانا في العالم، وذلك عامل مشجع على الاستثمار، باتت هناك قناعة راسخة لدى الغرب عموما، ان سورية دولة غير مستقرة على المستوى الامني، وهو عامل طارد للاستثمار، فعلى من يقع السبب.
لقد بات لافتا، أن تعامل الاجهزة الامنية بمختلف اختصاصاتها، مع الاعلام، صار اكثر تحررا، من تعامل باقي وزارات ومؤسسات الدولة، لدرجة يصح فيها القول ان هذه الاجهزة تقود الانفتاح الاعلامي، فتحصل على الخبر الخاص بهم، وهو من اخطر انواع الخبر، وغالبا ما يتعلق بأمن الدولة والنظام، خلال ساعات وربما اقل، في حين انك تحتاج الى اجراءات معقدة للحصول على الخبر السياسي او الاقتصادي الدقيق.
ان انهاء حالة الخصام ما بين الحكومة والاعلام في سورية انما يقتضي اعادة النظر بالبيئة التي تتحكم بهذا الاعلام، والدور الذي ينبغي ان يلعبه، يجب ألا يقتصر على توفير المعلومة بالسرعة المناسبة، وانما التخلص من العقلية التي تفصل بين الخطاب الموجه الى الخارج، وذلك الموجه الى الداخل، كما يجب ان يعمل على صنع وانتاج المادة الاعلامية، طاقات قادرة على العطاء بالاساليب العصرية، ما يعني بعبارات اخرى، توجيه «بطاقات شكر» لمن تحكم بالصناعة الاعلامية الى اليوم، على اعتبار ان من تعود على آلية عمل امتدت لسنوات طويلة، وكان سببا فيما يعاني منه الاعلام السوري، لن يكون هو ذاته من يقود ويقوم بعملية الاصلاح.
على الاعلام ان يتحول من قناة لضخ القرارات الحكومية من الاعلى نحو الاسفل، الى وسيلة فعالة تساهم في صنع هذه القرارات، وتحليلها، ونقدها، ولابد وان يدرك كبار مسؤولي الدولة وصناع سياستها الاقتصادية وغير الاقتصادية، انهم ليسوا رجال اعلام، ولا يقع على عاتقهم صنع وانتاج الرسالة الاعلامية، وليتركوا هذا العمل لاصحابه المحترفين.