صورة زاهية سعى بعض منا لتشكيلها تجاه مستقبل العلاقات السورية الفرنسية مع اقتراب انتهاء إقامة الرئيس الديغولي جاك شيراك في قصر الإليزيه، لكن ملامح هذه الصورة، وعلى خلاف أمنياتنا، بدأت تتشكل سريعا مع الأيام الأولى من عهد الرئيس اليميني الجديد نيكولا ساركوزي.
من أسابيع بل ومن أشهر عدة، ننـتظر تغيير رأس السلطة في باريس، ولطالما تمنينا أن ينتهي تأثير شيراك (الشخصي) لعلاقاته الحميمة مع أسرة الحريري، على العلاقات السورية الفرنسية، عملاً بمبدأ أن القادم مهما كان هو أفضل من الواقع الحالي السيئ، وعشمنا أنفسنا بعلاقات لن أقول جيدة، وإنما طبيعية مع الزعيم الفرنسي الجديد.
وفعلاً حصل التغيير وجاء ساركوزي الذي أعلن فور فوزه عن عهد جديد وقال (لقد اختار الشعب الفرنسي التغيير، وسأحقق له هذا التغيير)، ونسأل هنا: أين نحن من هذا التغيير؟
لقد بدأ شيراك بجمع حقائبه استعدادا للرحيل، وبدأ ساركوزي يتلقى التهاني ويستقبل مباركيه، وإذا كان رحيل الأول غير مأسوف عليه، رسميا على الأقل في سوريا، إلا أن طبيعة المهنئين للثاني ليست مبشرة بالخير، ففي إسرائيل تتغنى وسائل الإعلام بفوز ساركوزي وكأن ما حصل أشبه بـ(بلفور) جديد، وبعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة، يتصل كل أقطاب الدولة في الحكومة والمعارضة وفي مقدمتهم رئيس الحكومة إيهود أولمرت، وزعيم الليكود بنيامين نتنياهو، مهنئين ومباركين ومبشرين بعهد جديد للعلاقات الفرنسية الإسرائيلية.
وفي الإليزيه، وفي دلالة سياسية بالغة الأهمية، يستقبل الرئيسين، الجديد والمغادر، النائب اللبناني سعد الحريري، كأول شخصية تطأ قدماه القصر الرئاسي الفرنسي منذ فوز ساركوزي.
ومن هناك يعلن الحريري الابن أنه (بات على الأمم المتحدة الآن أن تتخذ قرار تشكيل المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسائر مَن اغتيل في لبنان تحت الفصل السابع، ووجوب استمرار العلاقات بين لبنان وفرنسا على ما كانت عليه خلال ولاية الرئيس شيراك).
ضوء خافت وصغير يلوح في الأفق وسط هذه اللوحة الرمادية، فقبل إعلان النتائج وصل دمشق بداية نيسان الماضي رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية – السورية في مجلس الشيوخ الفرنسي فيليب ماريني، والمعلن بحث ماريني علاقات التعاون السورية الفرنسية وحال تقدم الإصلاحات الاقتصادية ووضع اللاجئين العراقيين في سوريا، أما غير المعلن تشير المعلومات إلى أن ماريني المقرب من ساركوزي وأحد المرشحين البارزين لشغل منصب وزاري هام في الحكومة الفرنسية الجديدة، حمل معه نوعاً من التطمينات بأن العلاقات السورية الفرنسية لا يمكن أن تظل أسيرة العلاقات الشخصية بين شيراك وآل الحريري.
في الجانب الآخر من ضفة الأطلسي، ملامح تغيير بدأت تلوح في تعاطي الإدارة الأمريكية مع سوريا، وتم تتويجها بلقاء وزير الخارجية وليد المعلم مع نظيرته الأمريكية كونداليزا رايس في شرم الشيخ، وإن كان الهدف المعلن هو البحث عن سبل استتباب الأمن في العراق، وهذا أصلاً في مصلحة سوريا، فإن المعلم كشف أن المحادثات تطرقت أيضاً إلى مستقبل العلاقات السورية الأمريكية.
التحول في موقف الإدارة الأمريكية من الانتقاد الشديد لزيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، إلى حد السماح بلقاء بين رايس والمعلم، لم يكن مفاجئاًً للمتضررين من مثل هذا اللقاء، والدليل على ذلك تلك الحملة الإعلامية العالمية التي تم الترويج لها بأن دمشق هي التي تستجدي اللقاء سعياً وراء استرضاء الولايات المتحدة كمقدمة لكسر الحصار المفروض عليها أو تخفيفه كحد أدنى.
وإذا تحدثنا عن المتضررين من مثل هذا اللقاء، ونقصد طبعاً أقطاب إسرائيل، فإن هؤلاء لم يعد بالإمكان تصنيفهم في دائرة واحدة حتى في الحكومة، فبينما يُظهر أولمرت رفضه العلني إعادة إحياء عملية السلام مع سوريا، نلاحظ الخارجية الإسرائيلية وهي تعلن عن ضرورة إحياء المفاوضات للتحقق من النوايا السورية واستبعاد شبح حرب بدء يلوح.
ورغم محاولات سوريا التأكيد أن الأمريكيين هم الذين يأتون إليها، وأن مد يد المساعدة في الملف العراقي هي للمصلحة السورية العراقية أولاً وليس تلبية للضغوط الأمريكية واستجابة لمصالحها، رغم تلك المحاولات (الخجولة) إلا أن رأياً عاماً على المستوى العالمي تشكل بصورة معاكسة، لدرجة أنه ترك إثارة على العلاقات السورية الإيرانية، وسط تسريبات تشير إلى استعداد دمشق بالتخلي عن طهران إذا ما عدلت واشنطن من سياساتها في المنطقة، الأمر الذي دفع بمصادر إيرانية وثيقة الاطلاع إلى الإعلان بأن لقاء المعلم ورايس كان (ارتجالياً ولا يصب في المصلحة السورية).
إن وجهة النظر السورية تقوم على اعتماد أسلوب الحوار لأنه السبيل الأفضل، والجلوس مع الأمريكيين لا يعني بالتأكيد التخلي عن الثوابت، وإنما محاولة لتقديم وجهة نظر مختلفة لقضايا المنطقة، عن وجهة النظر الإسرائيلية التي تعود الأمريكيون الاستماع إليها.
كما أن العلاقات السورية الطيبة مع إيران لا تعني أيضاً تطابق وجهات النظر في كل الملفات، فبينما تعلن سوريا مثلاً التزامها بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لها، لا ترضى إيران حتى الآن الخوض في مشروع ينتهي بالاعتراف بإسرائيل.
ضبابية الرؤية التي تشكلت حول المواقف السورية، هي التي دفعت الرئيس بشار الأسد إلى الحديث بشفافية أمام مجلس الشعب عن ثوابت السياسة السورية، والتأكيد مجدداً أنها لم تتغير وأن أي (تعاون يتطلب تنازلاً عن السيادة الوطنية هو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً)، وأن (لقاء من هنا أو هناك مع أي جهة دولية لا يمكن أن يكون إلا في إطار مساعدة الشعب العراقي لتجاوز محنته وليس من أجل مساعدة قوات الاحتلال للخروج من ورطتها، ولا يجوز أن يفسر في أي إطار آخر)، كما أكد أن رسائل الولايات المتحدة (في أي اتجاه ذهبت، غير قادرة على تغيير توجهاتنا ما لم يتغير الواقع الذي نعيشه، وبالمنحى الذي تريده شعوبنا).
في عرضنا لحال السياسة السورية مع فرنسا أولا، ومع الولايات المتحدة ثانياً، إنما نريد الإشارة لمتغيرات تحصل هنا وهناك، وآليات تعامل مختلفة إلى حد ما، يتم انتهاجها، فتصيب أحياناً وتخطئ أحياناً أخرى، لكن، وبالتأكيد يجب ابتكار آليات التعامل هذه، وعدم انتظار المستقبل المجهول، فهو لن يحمل بالضرورة ما نتمناه بالنسبة لنا.
إننا نطالب بتعميم أسلوب الحوار مع الجميع، والمبادرة إليهم تماماً كما حصل مع الإدارة الأمريكية، واستبعاد أسلوب الانتظار والمقاطعة التي ميزت العلاقات السورية الفرنسية، وخصوصاً أن هناك تغييراً قد بدأ في عاصمة الضباب إثر إعلان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تنحيه عن رئاسة حزب العمال الحاكم وعن رئاسة الحكومة نهاية الشهر القادم، فهل نمد يدنا للمرشح المتوقع وزير المالية غوردون براون، أم نترك الساحة ثانية للإسرائيليين؟