ستتعرض تركيا إلى امتحان يدوم بين عشر وخمس عشرة سنة أمام لجنة فاحصة يشكلها الاتحاد الأوروبي. وقد بدأ هذا الامتحان بعد قبول طلب تركي يعود إلى حوالي أربعة عقود!ان هذا الامتداد في الزمن لا يلغي أن قرار فتح التفاوض استثنائي بكل ما للكلمة من معنى.
ولقد اتخذ بعد تذليل التعقيدات الأخيرة التي أثارتها النمسا، وبعد إلغاء خيارات أخرى كانت تطمح إلى أن يكون الأفق محصوراً ب«الشراكة المميزة» لا بالعضوية الكاملة. ولا يقلل من أهمية الحدث أن قادة أوروبيين احتاطوا منذ الآن قائلين إن النهاية ليست مكتوبة سلفا. يمكن النظر إلى هذه الحيطة بصفتها حافزا لحث «الطالب» التركي على الاجتهاد.
عم الفرح تركيا لحظة إعلان النبأ. اعترض البعض على شروط إضافية خاصة بالمجازر ضد الأرمن وبقبرص. إلا أن النصاب العام ميال إلى الاستقبال الايجابي لهذه الوجهة والاستعداد لدفع ثمن المغامرة.لا يمكن قول الشيء نفسه عن ردود الفعل الأوروبية. صحيح ان ممثلي الحكومات وافقوا ولكن الصحيح أيضا أن حماستهم تعكس الأمزجة المتفاوتة لشعوبهم حيال العضوية التركية.
لا شك انه لو طرح اليوم على استفتاء شعبي في أوروبا سؤال حول انضمام تركيا لجاء الجواب سلبيا في عموم الاتحاد وربما في كل دولة على حدة. فالمشروع الأوروبي حاليا، ليس في مرحلة انتعاش ونهوض. على العكس انه يمر في لحظة اختناق وتعثر.
لا بل انه يعاني من أزمة كشف عنها بعض التصويت السلبي على الدستور وأدى كشفه عنها إلى مفاقمتها.ومن يراجع الحيثيات الخاصة بهذا التصويت السلبي سيجد أنها تتقاطع عند عناوين تلتقي كلها عند الموضوع التركي. من هذه الحيثيات:
ـ ثمة خوف لدى العاطلين عن العمل ولدى الفئات ذات الموقع الاجتماعي الهش من اشتداد المزاحمة في سوق العمل الوطنية. ـ ثمة قلق مبثوث في أوروبا من التحول إلى منطقة هجرة كثيفة خصوصا إذا كانت بلدان إسلامية مصدر هذه الهجرة.
ـ ثمة رفض قاطع للعملية الجارية في بعض البلدان والقاضية بنقل مصانع وقطاعات عمل إلى بلدان اقل كلفة. ويؤثر ذلك بصورة جدية على شبكات الأمان الاجتماعي التي تؤمنها الدول لمواطنيها.
ـ ثمة تساؤلات عن تضخم الميزانيات الاتحادية خصوصا تلك المخصصة لمساعدة البلدان الأقل تطورا في القارة على رفع مستوى معيشتها وأدائها الاقتصادي لتشارك في سوق موحدة. وإذا كانت التساؤلات تطال بلدانا قليلة السكان فكيف إذا كانت تركيا هي المعنية.
ـ لا تفسير لصمود الأحزاب الوطنية المتطرفة، لا بل صعودها أحيانا، إلا انه تعبير عن الخوف من تعريض الهويات الوطنية للخطر بفعل المشروع الأوروبي، والعولمة، وتعزيز اللامركزية. وإذا كان أمكن، في السنوات الماضية، الحديث بخجل عن هوية أوروبية قيد التشكل فان احتمال الانضمام التركي يجدد المخاوف لان قطاعات شعبية أوروبية واسعة لا تنظر إلى هذا البلد بصفته جزءا من تاريخها وتراثها بغض النظر عن الوجاهة في هذه النظرة إلى بلد اعتبر، لفترة مديدة «رجل أوروبا المريض».
عندما يفكر الأوروبي العادي بموعد الانضمام التركي في 2015 و2020 فانه يرى أن هذه الدولة ستكون لحظة انضمامها الأكثر عدداً، والأشد فقراً وتخلفاً، والأكثر شباباً واستعداداً لتصدير اليد العاملة، ومن الطبيعي أن تثار الهواجس لدى «الأوروبي القديم» الذي لم يهضم حتى الآن توسيع الاتحاد من 15 إلى 25 دولة، ولدى «الأوروبي الجديد» الذي يخشى المنافس الطارئ. غير أن المفارقة هي أن الأسباب التي تدفع إلى الحماس لقبول تركيا هي بعض الأسباب الدافعة إلى الرفض.
ليس سراًّ أن أوروبا، بعض بلدانها بالأحرى، تخشى التراجع السكاني الذي قد يقودها بعد عقود إلى الكهولة والنقص الديمغرافي. إلى ذلك يعلم الأوروبيون، ورجال الأعمال بينهم، أن الحاجة إلى الأيدي العاملة ستزداد وأنها كلما كانت أقل ثمناً كلما عزّز ذلك القدرة التنافسية.
أضف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في موقع الاضطرار إلى رفض تقديم نفسه إلى العالم بصفته «نادياً مسيحياًّ»، لن يخدمه ذلك في ظل التوترات الكونية والصراعات، ولن يخدمه لا حيال جيرانه المتوسطيين ولا حيال ملايين من مواطنيه حوّلوا الإسلام إلى الديانة الثانية في القارة.
القضية التركية مطروحة بإلحاح في أوروبا، وإذا كان القرار اتخذ بفتح مفاوضات العضوية، فذلك لأسباب ستراتيجية قيل بعضها، ولأن عناصر ظرفية تحكمت بأصحاب القرار. أهم هذه العناصر ضعف المحور الفرنسي - الألماني. فرنسا ضعيفة لأنها رفضت الدستور ولأن رئيسها جاك شيراك يعاني عزلة داخلية.
وألمانيا ضعيفة بعد الانتخابات الأخيرة، وما أسفرت عنه وما اتضح خلالها من أن القوى الرافضة للانضمام قد تحتل موقعاً قوياًّ في الحكومة. غير أن ضعف محور باريس ـ برلين لا يفسر الكثير إلا إذا أشير إلى الأرجحية التي بات يمارسها توني بلير.
للأرجحية البريطانية المستجدة بعد توسيع الاتحاد، وفشل التصويت على الدستور، ترجمة مباشرة في ما يخص تركيا، فالميل البريطاني، منذ البداية، يغلّب فكرة «أوروبا السوق الكبرى» على «أوروبا الكيان السياسي المستقل»، ويفاخر البريطانيون بأن التطورات تعزز ولو مؤقتاً، رأيهم، ولذا فإنهم كانوا الأكثر حماسة لانضمام تركيا لأن كل توسيع، خاصة من هذا النوع، يذيب «الفكرة الأوروبية» الساعية نحو نوع من الفدرالية.
ستجد تركيا نفسها، في سياق المفاوضات، مرغمة على تعديلات سياسية واقتصادية وثقافية عديدة، إلا أن المشروع الأوروبي نفسه غائم هذه الأيام، بحيث يستحيل التقدير منذ الآن، نوع الاتحاد الذي ستنضم إليه تركيا... إذا انضمت.