باستثناء بعض المسؤولين الذين لا يزالون مقتعين بأن سورية تعيش حالة استثنائية من الاستقرار والكفاية والاصلاح والتنمية وأن كل ما يشاع عنها في وسائل الإعلام الخارجية هو جزء من الحملة الظالمة التي تستهدف نظامها التقدمي أو الوطني الرافض الخضوع لإرادة الهيمنة الأجنبية، لا أعتقد أن هناك سوريا واحدا لا يدرك اليوم بأن بلاده تعيش أزمة عصيبة ومصيرية يتوقف على عبورها بسلام مستقبلها ومستقبل شعبها معا. بل لا يوجد سوري لا يجتاحه الخوف والقلق على بلاده ولا يتساءل في ما إذا كانت لا تزال هناك فرصة لتجنيب سورية الكوارث التي حلت بالعراق بعد إسقاط النظام البعثي هناك من احتلالات أجنبية وفوضى سياسية وتمزقات طائفية. ولا يوجد سوري واحد لا يطرح على نفسه السؤال الذي طرحه الكاتب زياد قباني على نفسه وعلى جميع المثقفين والسياسيين السوريين أيضا : ماذا يبنغي أن نفعل، حتى نقود سفينة البلاد المتخبطة في عرض البحار إلى بر الأمان، مطالبا كل من له رؤية سياسية من السوريين أن يقول ماذا وكيف سيفعل

الآن لو كان يملك زمام السلطة في يده ؟ فأين تقف سورية اليوم وما هي طبيعة الأزمة التي تعصف بها وهل هناك بالفعل مخرج منها من دون خسائر أو على الأقل بخسائر أقل لا تعرض وحدة البلاد واستقرارها ومستقبلها للخطر، وماذا يستطيع الرئيس بشار الأسد أن يفعل إذا أراد إنقاذ المصالح الوطنية السورية؟

وأعتقد بالفعل أن ما طرحه زياد هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي علينا جميعا أن نطرحه على أنفسنا لأن طرحه يشكل بحد ذاته بداية الجواب الصحيح على الأزمة. وأهم ما فيه أنه يفترض ضمنا وعن حق أن الخروج من الأزمة لا يقع على كاهل السلطة ولا على كاهل الحكومة ولكن على كاهل السوريين كافة وقدرتهم على المبادرة والتأثير في مصير بلادهم.

لقد انتظر السوريون خلال السنوات الخمس الماضية الاصلاح وراهنوا على الخطابات التفاؤلية التي بثتها الأجهزة الإعلامية وساهمت فيها أيضا الحكومات العربية والدول الصناعية الغربية التي أعطت بدعمها للحكومة السورية رصيدا قويا له. ومما زاد في وهم تبني برنامج الاصلاح ورغبة السلطة القائمة في تحقيقه ما حصل من تفاهم مع الدول الأوروبية ومن الاستعانة بخبرات من خارج النظام لمراجعة السياسات الاقتصادية. فقد عاش السوريون سنوات طويلة على أمل وصول الاستثمارات الخليجية الموعودة وتوقيع اتفاقية الشراكة الأوروبية السورية، وتابعوا باهتمام وتفاؤل تعيين وزراء من خارج البعث وسموا بالليبرالية والقدرة على الحوار والتفاهم مع الدول الصناعية في مناصب المسؤولية الاقتصادية. لكنهم لم يحصدوا من ذلك كله إلا خيبة الأمل التي يزيد من مرارتها اليوم التدهور الشامل في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية معا وتراجع آمال التنمية وتفاقم البطالة والفقر. ومع انفراط عقد التحالف السوري الغربي وتهديد سورية بعقوبات جديدة تتهيأ الأمم المتحدة لإقرارها كرد على السياسات السورية تتحول هذه الخيبة إلى إحباط وتدفع الجمهور إلى اليأس من المستقبل ومن النظام الذي سلم له مقاليد أموره جميعا مغمض العينين خلال عقود طويلة.

واليوم تتكرر القصة ذاتها. فقد أدى سقوط الوهم في إصلاح النظام أو في إصلاحاته إلى جعل التغيير الهم الأول لجميع السوريين. فعندما يتحدث السوريون عن التغيير يثيرون فرضيات ثلاثة رئيسية ليس لأي منها علاقة بالشعب السوري نفسه وكلها تعتمد على المراهنة على قوى داخل النظام أو على قوى خارجية. فقسم منهم يأمل بأن يقود رئيس الجمهورية نفسه بوصفه صاحب السلطة العليا انقلابا داخليا على النظام يقضي فيه على القوى المعرقلة للاصلاح والمسؤولة في الوقت نفسه عن الفساد وإساءة استخدام السلطة الداخلية وأخطاء السياسة الخارجية التي قادت إلى العزلة الخانقة التي تعيشها البلاد. وقسم آخر يأمل بأن يفرز النظام من داخله قوى عسكرية وسياسية قادرة على تغيير النظام وإطلاق الحياة السياسية والفكرية بعد كبت طويل. وهم يعتقدون أنه ليس هناك أي أمل في أن يحصل التغيير من خارج النظام مهما كانت قوة الضغوط الداخلية. وقسم ثالث يراهن بشكل أكبر على الضغوط الخارجية والأمريكية بشكل خاص ولا يعتقد أن هناك أي أمل بالقضاء على النظام من دون تدخلات خارجية قوية.

وأخشى أن لا تكون نتيجة هذه المراهنة في التغيير على الانقلاب الداخلي والضغوط أو الصيغ الخارجية أفضل من نتائج المراهنة في الاصلاح على القوى الرسمية والشراكات الاقتصادية الخارجية. ففي الحالتين يفتقر العمل المنشود إلى القوة الرئيسية التي لا يمكن أن يقوم من دون مشاركتها تغيير ولا أن يحقق أهدافه، أعني الشعب السوري بقاعدته العريضة والواسعة. وعندما أتحدث عن الشعب السوري فأنا لا اقصد مجموعة السكان الذين يعدون بالملايين وإنما قوة منظمة ذات إدراك واضح لمصالحها الجماعية العليا أي الوطنية وإرادة واحدة مشتركة تسمح لها بالتصرف كقوة فاعلة سياسية على الساحة الداخلية والخارجية. فالشعب لا يوجد بصورة تلقائية وعلى مستوى الوقائع الاختبارية البسيطة ولكنه يتجسد في النسيج التنظيمي الذي يبني وحدته السياسية ورؤيته الوطنية. وهو ما يحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر. وليس من الضروري أن يتخذ هذا التنظيم ولا تلك الرؤية صورة التنظيم والرؤية الأحاديتين. بل بالعكس، إن الوحدة السياسية تفترض بعكس الوحدة الطبيعية المستمدة من الانتماء القبلي أو الديني أو العشائري التفاهم بين قوى متعددة لكل منها نظامها ومصالحها وبرنامجها الخاص. ولا يتم هذا التفاهم بتوحيد الاعتقادات والخيارات السياسية وإنما بالالتزام بمباديء وقواعد عمل واحدة تضمن استمرار التنافس والاختلاف في المصالح والبرامج وفي الوقت نفسه القدرة على الوصول لتسويات سياسية على أسس ثابتة تلزم الجميع وتكون قابلة أيضا للتغيير والتبديل مع اختلاف الظروف والأهداف. فالشعب لا يوجد من دون تنظيمه أو قواعد تنظيمه السياسي. وما فعله النظام الشمولي لاستبعاد المجتمع وتغييبه وللحلول محله والتصرف باسمه هو بالضبط القضاء على أسس التنظيم الذي يسمح للأفراد المتعددين وللمصالح المتباينة بتجاوز فرديتها وتباينها وتكوين إرادة واحدة وتفكير مشترك، أي ضرب القواعد التي لا تقوم من دونها إرادة موحدة ولا وعي مشترك.

جوابي إذن على الأسئلة المصيرية التي طرحها زياد قباني هو أن أحدا لن يستطيع أن يفعل شيئا لسورية ما لم يأخذ الشعب السوري هو نفسه مسؤوليته على عاتقه وفي مقدمه قوى التغيير أو القوى المؤمنة بالتغيير وحتميته، ولا أقول قوى المعارضة فحسب، سواء أكانت داخل النظام أو خارجه. فأصل المشكلة هي بالضبط التخلي الجماعي عن المسؤولية تحت الضغط والإكراه وترك الأمور معلقة بيد فئة واحدة وضعت نفسها بالقوة أو بالاقناع في موقع القيادة الحصرية والأبدية للمجتمع والدولة. وبداية حمل المسؤولية المشاركة في الحياة العمومية والانخراط مع الآخرين في تنظيمات سياسية أو مدنية لا مهرب منها لتكوين النسيج الشعبي، أي الشعب المنظم الفاعل على مسرح التاريخ. وغياب الشعب بنفي عن أي مبادرة تغيير أو إصلاح، داخلية كانت أو خارجية، أي غاية أخلاقية ويحولها إلى أداة في يد الاستراتيجيات الفئوية والدولية المتنافسة. فبداية الطريق نحو بر الأمان هي الخروج من الهامشية والاتكالية والانخراط الطوعي في الحياة الوطنية.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)