يستمد «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي» الذي صدر في العاصمة السورية، يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر)الجاري، أهميته من ثلاثة عوامل: مضمونه، القوى المشاركة فيه، توقيته.
يشارك البيان معظم وثائق الطيف السوري المعارض والمستقل لغتها ونفَسها التحليلي، لكنه ينفرد عنها بدرجة اكبر من التحديد في الموقف من النظام، بروح توافقية حيال مكوّنات المجتمع السوري وتياراته، وبحس بالإلحاحية يتخلل فقراته. يتحدث عن «مهمة تغيير إنقاذي تخرج البلاد من صيغة الدولة الأمنية إلى صيغة الدولة السياسة». ويصف التغيير الذي يتطلع إليه بأنه «جذري»، ويرفض كل «أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية». وفي شرح للإعلان كان مقدراً له أن يُلقى أمام أجهزة الإعلام في مؤتمر صحافي منعه الأمن السوري، قال ناطق من أحد الأحزاب المشاركة إن الموقعين على الإعلان يعملون على «تكوين ائتلاف واسع، من أجل عملية التغيير وإقامة نظام ديموقراطي، يحل محل النظام الشمولي القائم».
بالجملة، يحقق الإعلان نقلة مضمونية من نهج الإصلاح إلى نهج التغيير، ومن رؤية النظام كشريك محتمل إلى النظر إليه كعائق أمام التغيير. ولا شك أن هذا التحول يعكس شعورا متناميا عند أوساط أوسع من المعارضة بإفلاس نهج الإصلاح ووصوله إلى الطريق المسدود.
وقع على البيان «التجمع الوطني الديموقراطي» و»لجان إحياء المجتمع المدني»، ولأول مرة ائتلافان كرديان: «التحالف الديموقراطي الكردي» و»الجبهة الديموقراطية الكردية في سورية» اللذان يضمان 8 من الأحزاب الكردية السورية الأحد عشر، إضافة إلى تنظيم جديد يسمى «حزب المستقبل» (عُرّف بزعيمه: الشيخ نواف البشير). ووقعت عليه «شخصيات وطنية»، مثل رياض سيف النائب السجين منذ أكثر من 4 سنوات، والشيخ جودت سعيد المفكر الإسلامي المنفتح، والطبيبة فداء أكرم الحوراني وستة آخرين. وفور صدروه انضم إليه الإخوان المسلمون، واعتبره بيان صادر عن المراقب العام علي صدر الدين البيانوني «إعلانا تاريخيا»، ودعا «كافة القوى والشخصيات السياسية، والمنظمات والهيئات الوطنية، داخل الوطن وخارجه» إلى الانضمام إليه. وأغلب الظن أن واضعي الإعلان أدرجوا فقرة مرتبكة الصياغة تقول إن «الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء، يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب» من اجل أن ينضم إليه الإخوان. وأغلب ظننا أيضا أن «الإخوان» كانوا على علم مسبق بالوثيقة، وإن لم يسهموا في صياغتها.
أثارت الفقرة المذكورة والانضمام السريع للإخوان سجالا متوترا، عصبيا، عنيفا، صدرت عنه اتهامات فورية بالطائفية. وفي إشارة دالة على حساسيات الراهن السوري ومواطن قلقه دانت جهة الكترونية، تسمي نفسها «الجبهة السورية الوطنية لنصرة الرئيس بشار»، «الإعلان الذي صاغته عصابة الإخوان المسلمين وتبنته التجمعات السنية في سورية ورفضه الأكراد». ورفض الأكراد المُلمح إليه يحيل إلى حزب «يكيتي» الكردي الذي رأى أن «الإعلان قد حدد سقف حقوق الكرد بالمواطنة، وهذا يعتبر إجحافاً بحق شعبنا الكردي الذي يعيش على أرضه التاريخية وله خصوصيته القومية»، مطالباً «بالمساواة التامة بين القوميتين العربية والكردية».
على أن الإعلان حظي بانضمام إشكالي من قبل «حزب الإصلاح السوري» الذي أعلن رئيسه فريد الغادري تأييد «إعلان دمشق ونعتبره خطوة كبيرة على درب الوئام والوفاق الوطني والتغيير الديموقراطي». والأرجح أن القوى الموقعة على الإعلان ليست مبتهجة بانضمام حزب الإصلاح، المعروف بارتباطه بالأوساط الأشد تطرفا وعدوانية ضمن الكونغرس والإدارة الأميركيين.
يبقى صحيحا أن ائتلاف «إعلان دمشق»، الذي يفتقر إلى اسم يميزه، أول إطار تحالفي يجمع علمانيين وإسلاميين منذ بداية العهد البعثي. إن مشاركة قوميين ويساريين مع إسلاميين وأكثرية التنظيمات الكردية غير مسبوقة في تاريخ سورية المستقلة. ولا جدال في أن الإعلان خضع لتفاوض مسبق وتسويات ومساومات وحلول وسط من أجل توسيع قاعدة التوافق بين المشاركين، ولم ينل أي فريق من الموقعين عليه كل ما يرغب.
صدر الإعلان بعد أربعة أيام من الموت العنيف لوزير الداخلية السوري غازي كنعان، وقبل خمسة أيام من تسليم ميليس تقريره الخاص بقضية اغتيال الرئيس الحريري إلى الأمم المتحدة. ولا ريب أن الموقعين عليه رغبوا أن يطرحوه للرأي العام في هذا الوقت المتقلب كالبحر والزلِق كالصابون. أرادوا، حسب الناطق المومأ إليه فوق، القول لمواطنيهم إن «قوة جديدة قد ولدت للعمل من أجل التغيير»، ورغبوا في إعلام «الرأي العام الخارجي» أن «سورية ليست قوقعة فارغة سياسياً»، وأن فيها «قوى شعبية لها تاريخ طويل في النضال الديموقراطي، جديرة بالثقة، ويمكن الحوار معها، وهي موحدة (...) ولها برنامجها الذي يتلاقى مع روح التجديد في هذا العصر». هذه إشارات دالة غنية المغزى. ولا ريب أنها تردّ من طرف خفي على من يقول إن التغيير في سورية سيؤدى إلى فوضى عامة أو إلى حلول إسلاميين متشددين محل النظام «العلماني» الحاكم. إنها تعلن أن ثمة بديلاً، وترشح ائتلاف «إعلان دمشق» للقيام بدور البديل.
الثقافة السياسية التي يصدر عنها «إعلان دمشق»، في مضمونه وفي روح مبادرته الوفاقية، اكثر انفتاحا وتعددا من معظم الانتقادات التي وجهت إليه. كان لافتا أنه ربط بين «نبذ الفكر الشمولي والقطع مع جميع المشاريع الإقصائية والوصائية والاستئصالية» وبين «نبذ العنف». ولافتةٌ أيضا إشارته إلى مخاطر «عقلية التعصب والثار والتطرف وممانعة التغيير الديموقراطي»، وتقريره أن «ليس لحزب أو تيار حق الادعاء بدور استثنائي»؛ كذلك كلامه على «قطع الطريق على المغامرين والمتطرفين». هذا فضلا عن انفتاحه على البعثيين و»أهل النظام»، وتأكيده انه «ليس موجها ضد أحد».
وثيقة «إعلان دمشق» أعقل من الشرط السوري الراهن المتسم بالاحتقان وجموح المشاعر وتوتر الأعصاب. إن الانتقادات التي وجهت إليه دالة جدا حتى لو لم تكن دوما محقة. والانتباه لما تنطوي عليه الانتقادات تلك من ضروب قلق ومشاعر استبعاد، وإن استصلحت لنفسها لغة عنيفة أحيانا، أول وأبسط تحد يواجه الإعلان وأطرافه الثلاثة الرئيسية.
التحدي الثاني، والأخطر، هو موقف السلطة التي اعتصمت حيال الإعلان بصمت متوقع، خصوصاً أن تقرير ميليس وشيك جدا. الأرجح أنها ستجمع الترهيب والترغيب في مسعى لتفكيكه حين تأنس ظرفا مناسبا. أما التحدي الأكبر فهو محافظة الائتلاف على وحدته، وهو ما لا يتأتى إلا بتعميق التفاهم بين أطرافها، بما يتجاوز التطلع المشترك نحو تغيير الواقع القائم، أو بالتوسع المستمر للائتلاف واجتذاب قوى جديدة، بما فيها قوى متحفظة حاليا عن الإعلان أو معارضة له.