ربما ليس لسورية دور في العملية كما يقول مسؤولوها، لكن هذا لا يعفي دمشق من مسؤوليتها ولا يبرر لها أن تتصرف أمام عملية اغتيال رفيق الحريري في شباط الماضي وكأن الأمر لا يعنيها.
من المؤكد أن نشر تقرير القاضي ميليس الذي يوجه شبهة تورط بعض المسؤولين السوريين الكبار في عملية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري قد شكل ضربة معنوية كبيرة للسلطة السورية. فقد جاء بعد ثلاثة أيام من إعلان دمشق ليكرس عزلة النظام الخارجية، بعد أن عمق تحالف المعارضة على مختلف أطيافها عزلة النظام الداخلية.
بيد أن ذلك ليس سببا كافيا ليدفع دمشق إلى تبني موقف سلبي من التقرير يزيد من مخاطر هذه العزلة بدل أن يساعد على تجنب المواجهة مع المجموعة الدولية. فهو استمرار للموقف الذي قاد إلى ما نحن فيه إعني موقف التبرؤ من التهمة على سبيل التهرب من المسؤولية الذي اتبعته السلطات السورية منذ بداية الأزمة حين أصرت على أنها ومسؤوليها ليس لهم علم بالعملية ولم يشاركوا فيها وبالتالي فليس لهم أن يساهموا في الكشف عن الضالعين فيها. ولا يدفع التهمة عنا اتخاذ موقف الضحية، ولا رمي المسؤولية على الولايات المتحدة وإسرائيل والمعارضة اللبنانية بسبب عدائهم لسورية أو خصومتهم معها، ولا التذكير بأن المتضرر الرئيسي من اغتيال الحريري هي المصالح السورية نفسها.
ربما ليس لسورية دور في العملية كما يقول مسؤولوها، لكن هذا لا يعفي دمشق من مسؤوليتها ولا يبرر لها أن تتصرف أمام عملية اغتيال رفيق الحريري في شباط الماضي وكأن الأمر لا يعنيها. وكان عليها كسلطة مسؤولة، تجاه لبنان التي تمارس فيه دور الوصي على الأقل في الشؤون الأمنية وتجاه سورية نفسها، أن تبادر إلى تشكيل لجنة تحقيق سورية لمعرفة الحقيقة وقطع الطريق على أي طرف يمكن أن يستغل العملية للإضرار بالمصالح السورية العليا. ولكنها عوضا عن ذلك فضلت الوقوف موقف المتفرج وتوجيه التهم الجزاف لخصومها. وعندما بدأ الحديث عن تشكيل لجنة تحقيق دولية حاولت ثني الحكومة اللبنانية عن الموافقة عليها.
وعندما أقر مجلس الأمن تشكيل اللجنة ترددت في التعاون معها إلى أن أعلن القاضي ميليس بأن سورية لا تتعاون مع لجنة التحقيق. وعندما ردت السلطات السورية بأنها أرسلت موافقتها على التعاون، لكن لأسباب تقنية تأخر الرد وأعلنت استعدادها للتعاون من جديد، أحاطت هذا التعاون بجملة من الشروط والتحفظات المتعلقة بقضايا السيادة الوطنية والقوانين السورية الخاصة بالتعامل مع الموظفين السوريين لدرجة جعلت هذا التعاون يبدو، في نظر اللجنة والرأي العام الدولي معا، وكأنه مفروض عليها بالرغم منها وأنها، كما ذكر التقرير، قبلت بالتعاون شكليا لكنها قررت أن لا تقدم أي معلومة تفيد اللجنة أو تساعدها على التقدم في تحقيق هدفها.
وقد وصل ذلك إلى دفع القاضي ميليس إلى حد اتهام وزير الخارجية السورية ونائبه معا بإعطاء معلومات كاذبة بهدف تضليل اللجنة. ويأتي اليوم رفض محتوى التقرير واتهامه بالافتقار إلى النزاهة والحرفية ليعزز الاعتقاد بأن سورية لا تريد أن يصل التحقيق إلى غايته أو أنها تخشى من استمراره ومن النتائج التي يمكن أن يصل إليها.
لا يساعد هذا السلوك ولم يساعد السلطات السورية على إثبات براءتها ولكنه ساهم بالعكس في تعزيز الشكوك بتورطها. وكان أولى بالمسؤولين السوريين كما ذكرت أن يبادروا هم أنفسهم، قبل أن تذهب المسألة إلى مجلس الأمن بفتح تحقيق جدي حول عملية الاغتيال بمشاركة دولية فعلية وأن يظهروا، بعد أن تكونت لجنة التحقيق الدولية بتكليف من مجلس الأمن، أقصى درجات التعاون معها وتقديم جميع المعلومات التي بحوزة الأجهزة الأمنية السورية لمساعدة التحقيق على الوصول لغايته. وكان ذلك سيساعد على فتح الباب أمام فرضيات أخرى لعمل التحقيق غير الفرضية التي يبدو أن لجنة التحقيق الدولية قد عملت على أساسها منذ البداية وهي احتمال تورط الأجهزة الأمنية اللبنانية ومن ورائها، وبسبب العلاقات الوثيقة التي تربط في ما بينها، الأجهزة الأمنية السورية. وكانت هذه المشاركة وحدها كفيلة بإزالة الشكوك والشبهات وتبيض صفحة السلطات السورية تماما أمام لجنة التحقيق والرأي العام اللبناني والسوري والعالمي معا.
تستطيع دمشق أن تبريء نفسها من المشاركة في الجريمة إذا كان ذلك صحيحا لكنها لا تستطيع أن تعفي نفسها من مسؤولية المساهمة في الكشف عن مرتكبيها. فهناك جريمة كبرى ارتكبت في بلد تحتل فيه موقعا أمنيا وسياسيا متميزا باعترافها هي نفسها وبما بنته خلال العقود الماضية من علاقات استثنائية مع الأجهزة اللبنانية والسياسية ومختلف الفعاليات والمنظمات الأهلية اللبنانية نفسها. وكان من أبسط واجباتها كدولة مسؤولة أن تبادر إلى البحث عن الجناة أو على الأقل إظهار اهتمامها بالبحث عنهم، سواء أكان أحد من مسؤوليها مشارك فيها أم لا، في الوقت الذي بدت فيه ميالة أكثر إلى لفلفة القضية والإسراع في إغلاق ملف التحقيق وترك الأمور تجري كما لو أن ما حصل كان أمرا عاديا لا يستحق البحث ولا التقصي ولا التعب. وقد عزز هذا الانطباع احتجاج أنصارها على اهتمام المجموعة الدولية بمقتل الحريري بينما تركت حالات إغتيال عديدة أخرى من دون تحقيق في لبنان وغيره، مما يشي بأن الهدف من التحقيق هو النيل من سورية لا الوصول إلى الحقيقة.
لن يفيد سلوك التهرب من المسؤولية في تبرئة المسؤولين، بل ستكون له نتائج وخيمة ليس على النظام فحسب ولكن على المصالح السورية نفسها. وليس من الممكن لدمشق أن تزيل الشبهات التي تحوم حولها بسبب سلوكها الخائف والمتردد معا في الكشف عن الحقيقة إلا بالتعاون الواسع مع لجنة التحقيق الدولية وتقديم جميع المعلومات التي تملكها الأجهزة الأمنية حول هذه الجريمة. ومن دون ذلك سوف يظل شبح الجريمة يحوم في الفضاء وسيف الاتهام مسلطا على المسؤولين السوريين إلى النهاية، مع تضييق الخناق والحصار على النظام وأخذ البلاد نفسها رهينة.
لكن، وهذا هو السؤال الذي يراود كما يبدو لي الكثير من السوريين الذين بدأوا يخشون من عواقب التحقيق الدولي على بلادهم: ماذا لو كان بعض المسؤولين السوريون متورطين فعلا في عملية الاغتيال وكيف يمكن لهم التعاون ضد أنفسهم؟ في هذه الحالة أعتقد أنه لا مهرب لهؤلاء المسؤولين من مواجهة الحقيقة وتحمل مسؤولياتهم عن أفعالهم. ولن ينفعهم تحميلها لسورية بأكملها ولا السعي، كما آظهر ذلك مثال المسؤولين العراقيين بجوارهم، الدفاع عن قضية خاسرة بأساليب خاسرة تجر الدمار عليهم وعلى أوطانهم.. وفي اعتقادي لن تكون هناك بعد الآن، في هذه القضية، لا تسوية سياسية ولا صفقة على الطريقة الليبية. ولن تخرج سورية من الورطة الكبيرة الراهنة إلا بتحمل كل فرد مسؤوليته وقيامه بما يمليه عليه واجبه.