تحكي قصة سمعتها نقلاً عن سائق شاحنة لاحَقَ لقمة العيش خمسين عاماً على دروب بلادنا من الحد الى الرد: أن قاضياً احتكم إليه جاران اختلفا على ملكية جدار يفصل بين داريهما, وكل منهما لديه إثباتات وحجج تؤكد أحقيته بالجدار, فأجَّل القاضي الفصل في القضية ريثما يدرسها جيداً. في تلك الأثناء, سأل الخصمان عن القاضي وعلما أنه يحب الهدايا. أحد الخصمين بائع دجاج, أرسل إلى بيت القاضي عشرين دجاجة. أما الثاني فكان صائغاً, أحضر طبقاً فيه أربعين حبة من التمر الفاخر واستبدل نواة كل واحدة بليرة من الذهب, ثم أرسلها مع حاجب المحكمة الى القاضي. في الطريق اشتهى الحاجب تذوق التمر, فاكتشف ما بداخله, فاستولى على خمس حبات منه.
عندما حان موعد الجلسة النهائية حكم القاضي لصالح الصائغ, ما أغضب خصمه ونهض ليعاتب القاضي قائلاً: كيف تحكم لخصمي وقد أتيتك بعشرين شاهداً. فرد القاضي: لقد جئتني بشعيط ومعيط ونطاط الحيط, أما خصمك فقد أتاني بخمسة وثلاثين شاهداً إيمانهم في قلوبهم. وهنا تدخل الحاجب: لا بل يا سيدي كانوا أربعين شاهداً, خمسة منهم عاجزون, بينهم المقعد والأعمى والمسن, فلم يتمكنوا من الوصول الى المحكمة.
أكثر ما يدعو للتوقف عنده في هذه القصة, التسليم بأن الحكم حتماً لصالح الأقوى, وليس لصاحب الحق, ومعرفة الحقيقة تبدو في آخر سلم اهتمامات القاضي, لطالما عملية البحث عنها أهم من الوصول إليها, لما توفره أجواء البحث من مساحات وهوامش للتفاوض والمفاضلة بين العروض المقدمة من الأطراف المعنية بالكشف عن الحقيقة, ومن يملك من الشهود أربعين إيمانهم في قلوبهم ليرات من الذهب, لا بد من أن تأتي الحقيقة مفصلة على مقاسه. أما ذلك الذي يعتقد انه قدم كل ما بإمكانه تقديمه, متسلحاً بشهود يصرخون كشعيط, وينتف ريشهم كمعيط, ويقفزون كنطاط الحيط, لن تغري القاضي بالانحياز لصالحه, بغض النظر عن كونه ظالماً أم مظلوماً.
هكذا حال العدالة الدولية إذ تتمثل في مجلس الأمن, وهو يعيد ويكرر المشاهد ذاتها في إصدار قرارات الضوء الأخضر لتأديب الأنظمة العربية على ما فعلته وما لم تفعله, من لوكربي مروراً بالعراق وصولاً الى سوريا, إذ ليس من اللازم أبداً الدليل الدامغ والقرائن. المهم, تقرير يشكك, ويشتبه, ويظن؛ وهو كفيل بإصدار حكم سياسي بإنزال أقسى العقوبات. أما التحقيق الحقيقي والحكم القضائي القانوني المفترض أن يكون أولاً وأخيراً, فلا بأس من تأخيره ولو عشر سنين, فثمة محقق متفرغ للقضايا الصعبة, وإلى أن يحلّس الافتراضات ويملّس الاتهامات التي بنى عليها تقريره, يتولى مجلس الأمن إصدار الحكم بعد تدويخ المشتبه فيه وتهيئته للاعتراف, بأن لا حقيقة غير حقيقة أن العيون الدولية لا يمكنها مقاومة المخرز الأميركي. وحقيقة أن مجلس الأمن بفضل السياسات الأميركية تحول إلى مجلس عقوبات يسوغ الحروب الاستباقية. وأمينه العام ليس أكثر من مختار درجة عاشرة عليه أن يطج ختم الشرعية على كل ما تعتقده إدارة البيت الناصع البياض, لضمان الأمن السلم الدوليين, حتى لو جر خراباً ودماراً شاملاً وكاملاً مكملاً!! لأنه ليس هناك حسب نظرية الفوضى البناءة ما هو أكثر أمناً وسلماً من الخراب الشامل وأكوام الجثث والموتى والمدن المدمرة.
إذا كانت هناك تتمة للحقيقة, فهي أن كبار القادة في العالم والبلاد العربية, دخلوا اللعبة البوشية راضين مرضيين, ولن يجدوا غضاضة ولمجرد الاشتباه, في معاقبة سوريا وشعبها لأنها لا تملك من الشهود غير إعلام شعيط ومعيط وسياسية نطاط الحيط.