قلت في مقال سابق إن التفاهم الأميركي- الفرنسي ضد النظام السوري وما تبعه من عمل مشترك على قرار مجلس الأمن رقم 1559 القاضي بخروج الجيش السوري والأجهزة الأمنية من لبنان بعد تصويت الكونغرس الأميركي على قانون معاقبة سوريا قد وضع النظام السوري في منطقة رمال متحركة• وإن أي حركة يقوم بها النظام منذ ذلك الوقت للخروج من دوامة الرمال هذه لن تزيده إلا غرقاً فيها• وهذا ما حصل بالفعل بعد التمديد للرئيس إميل لحود الذي جاء ردا مسبقاً على تبني قرار انسحاب الجيش السوري من قبل مجلس الأمن، وما سيحصل أيضا بعد اغتيال الحريري الذي بدا للجميع وفي مقدمهم مئات الألوف من اللبنانيين الذين خرجوا إلى الساحات منددين بأجهزة الأمن السورية واللبنانية وكأن النظام السوري هو المتهم الوحيد والطبيعي فيه• لكن مع تصويت مجلس الأمن على القرار رقم 1663 كرد على عدم التعاون السوري الكامل كما جاء على لسان القاضي الدولي، أصبح مصير النظام معلقاً بشكل كامل، ولا مهرب منه، بقرار التكتل الغربي وإرادته• ولن يكون للنظام مخرج من الفخ الذي وقع فيه إلا بالقبول بالاستسلام للتحالف الأوروبي- الأميركي من دون قيد أو شرط• ليس مهماً بعد الآن أن يكون النظام قد شارك أم لا في الجريمة النكراء• وليس من المؤكد أن معاقبة مرتكبي هذه الجريمة هو الهدف الحقيقي أو الرئيسي من عملية اصطياد النظام السوري التي لا يشكل موضوع اغتيال الحريري إلا جانبا منها• المهم أن ما أرادته الولايات المتحدة وفرنسا قد تحقق، فأصبح موت النظام أو بقاؤه في يد التحالف نفسه الذي قابله النظام السوري بالتحدي عندما قرر، لأسباب مختلفة، تبني سياسة عرقلة التغيير الأميركي في العراق والتغيير الفرنسي في لبنان• وكان هدف النظام في كليهما السعي بجميع الوسائل إلى المحافظة على هامش حركة إقليمي يمكنه من تحسين موقعه التفاوضي مع الدول الكبرى من جهة ومع شعبه المستبعد تماماً من القرار من جهة أخرى•
ويشبه وضع النظام السوري في هذا المجال الوضع الذي عرفه نظام صدام حسين كثيراً• فالنظام العراقي الذي اعتقد أنه يستطيع التصرف بحرية نسبية كبيرة أو باستقلالية عن الدول الغربية، لما يملكه من موارد نفطية ومالية من جهة، وما راكمه من وسائل القوة العسكرية في حربه الطويلة ضد إيران من جهة ثانية، نسي، في فترة من جنون العظمة، أن سر قوته وانتصاره على إيران لا يكمن في ما يملكه من قوى أصيلة، ولكن في التفويض الضمني الذي منحته إياه الدول الغربية والذي حصل بفضله على التطور التقني العسكري الكبير الذي شهده• وقد أراد هو أيضا، كما سيحاول النظام السوري بعده، أن يستفيد من هامش الاستقلالية الذي يتيحه تراكم القوة الإقليمية، في سبيل الدفاع عن أجندة خاصة بالنظام نفسه ومستقلة عن أجندة الدول الغربية التي رتبت الحرب ضد إيران• وكانت النتيجة تصفية القوة العسكرية العراقية التي كان يراهن عليها الرئيس العراقي لتحقيق أهداف خاصة به، لا بل الذهاب في ما وراء ذلك، والقضاء على الدولة العراقية المحدثة ذاتها لما يمكن أن تمثله من مخاطر محتملة على المصالح الغربية في الخليج والمشرق بشكل عام•
لم يكن تراكم القوة العسكرية والتحكم ببعض تقنياتها على مثال ما حصل في العراق هو الذي دفع المسؤولين السوريين إلى الخطأ في الحسابات التي قادتهم إلى ما هم فيه، ولكن تراكم ما أطلقوا عليه اسم الأوراق الإقليمية• والمقصود بها بالدرجة الأولى تحكمهم بمواقع استراتيجية أو بمنظمات وهيئات ومؤسسات وحركات إقليمية تجعلهم قادرين على التأثير على سياسات بعض الدول المجاورة، ومن ورائها يمكن عقد صفقات مربحة مع القوى الغربية التي بقيت متمسكة لفترة طويلة بسياسة دعم الاستقرار في المنطقة الشرق أوسطية بأي ثمن، ومحاصرة أي حركة تغيير، بما فيها الحركات الإصلاحية البسيطة• وكما حصل في العراق نسي القادة البعثيون في سوريا أن مراكمة النفوذ الإقليمي أو الرصيد الذي ارتبط به لم ينشأ ضد إرادة الدول الغربية الفاعلة في المنطقة ولكن بموافقتها• وهي حريصة على أن تحافظ عليه طالما بقي يستخدم لتحقيق أهداف لا تختلف عليها أو طالما كان ينسجم مع استراتيجيتها•
من هنا لم يكن المستهدف في المواجهة السورية- الغربية الراهنة أي مصلحة سورية أخرى ولكن الدور السوري الإقليمي الذي يشكل الحضور العسكري والأمني السوري في لبنان مركز قوته ورمزه معاً• ولا يهدف القضاء على النفوذ السوري الإقليمي القضاء على النظام القائم ولكن تجريد هذا النظام الاستقلالية التي يتيحها نفوذه الخارجي والتي تشجعه على التفكير في صوغ أجندة خاصة منفصلة أو متميزة عن أجندة الدول التي تعتقد أن وجوده نفسه معلق بها ومعتمد عليها• ومما سهل على الدول الغربية تصفية هذه القوة المولدة للاستقلالية هو أنها لم ترتبط بالدفاع عن مصالح وطنية عامة، ولكنها استخدمت للحفاظ على مصالح خاصة وفي مقدمها بقاء النظام ومجموعة المصالح الضيقة المرتبطة به واستمرارهما• لكن إذا كان سبب الأزمة المتفجرة في العلاقات السورية- الغربية لا يختلف عما عرفه عراق صدام حسين قبل الغزو الأميركي، فلا يعني هذا أن الاختيارات المتاحة للتحالف الغربي وللنظام السوري أيضا واحدة ولا المطالب متماثلة• فبعكس ما حصل مع عراق صدام ليس هناك مخرج من أزمة العلاقات الغربية البعثية السورية حتى الآن سوى إعادة تأهيل النظام وتشغيله لحسابه نظرا لغياب بدائل مشابهة• وليس هناك ما يمنع النظام السوري، الذي وقع في الفخ وفقد كل الآمال في الاستمرار، من الامتثال لطلبات التحالف الغربي جميعا، والقبول بإخضاع شبكات مصالحه التي نسيت، تحت تأثير إغراءات مراكمة الثروة الاستثنائية منطق السياسة والجيوسياسة ومعايير التعامل الدولي ومنطق القوة الأصيلة• ومن هنا لم يعد الخطر على سوريا زوال النظام وما يمكن أن ينجم عنه من فوضى بل بالعكس بقاؤه• فهو يعني تكريس الوضع الأمني الداخلي القائم بما يختزنه من عوامل التدهور والفوضى والنزاع• وليس لسوريا مصلحة في دخول عالم المنافسة القادمة بنظام منشغل بحل تناقضاته وضمان توافق مصالحه مع مصالح الدول الأجنبية• إن من مصلحة سوريا والشعب السوري تحويل هذه الأزمة إلى نقطة قطيعة مع الماضي والتقدم نحو إقامة نظام جديد قادر على إعادة بناء الإجماع الوطني وتعزيز التفاهم الداخلي في إطار التعددية وعلى موقف السوريين وحده، وفي مقدمهم قوى المعارضة الديمقراطية، يتوقف حسم الصراع الراهن بين خيار التمديد للنظام ، مع ما ينطوي عليه من نزاعات وتوترات وربما حروب أهلية كامنة، وخيار بناء نظام ديمقراطي إنساني جديد يضمن العدالة والحرية والمساواة والتعايش بين جميع السوريين دون إقصاء أحد ويقيم حياتهم الجمعية على قاعدة أخلاقية•