عرف اللبنانيون فؤاد السنيورة منذ سنوات طويلة. عرفوه صديقا لابن مدينته صيدا رفيق الحريري وشريكا له في هموم الصبا السياسية وغير السياسية. وعرفوه مستشارا ماليا واقتصاديا له عندما انعم الله عليه بثروة. وعرفوه وزيرا دائما للمال في الحكومات التي الفها منذ عام 1992 سواء مباشرة او مداورة. وعرفوه وفيا لمن ادخله هذا العمل الحكومي وليس السياسي ومؤمنا بمشروعه الوطني ومساعدا له في تنفيذه. احبه بعضهم في تلك المرحلة انطلاقا من حبهم للحريري. وكرهه بعضهم الاخر انطلاقا من كرههم للحريري. ولم يرتح اليه بعضهم الثالث لان موقعه الوزاري ارتبط عندهم دائما بالضرائب والرسوم والديون، علما ان موقعا كهذا لا يجلب لصاحبه شعبية ليس في لبنان فقط بل في العالم كله.
لكن معرفتهم الطويلة به هذه كانت ناقصة، وكان يجب ان يتولى فؤاد السنيورة رئاسة الحكومة في اعقاب اغتيال صديقه ورفيق دربه الحريري كي تكتمل. وقد اكتملت، ونتيجة هذا الاكتمال صار اللبنانيون يعرفون ان السنيورة رجل دولة من طراز رفيع وانه رجل سياسة واقتصاد ومال من طراز مهم وانه رجل صلب ولكن من دون تهور وانه رجل عاقل وحكيم وان استفزازه ليس سهلا على الاطلاق، علما ان الظروف الصعبة والدقيقة والخطيرة التي يمر بها والبلاد تثير اكثر الناس برودة. ولا يعني ذلك ان اللبنانيين كلهم يوافقونه الرأي والموقف ذلك ان الاختلاف في الاراء ووجهات النظر فضلا عن المواقف امر طبيعي في الديموقراطيات، اذا اعتبرنا لبنان ديموقراطيا وهو ليس كذلك او على الاقل لا تزال ديموقراطيته شكلية، وامر طبيعي في بلد معقد ومركب كلبنان.
ما هي العوامل التي تقف وراء التقويم الايجابي لفؤاد السنيورة رئيس الحكومة رغم انه "ليس في القصر الا من مبارح العصر" اي منذ اربعة اشهر ونصف شهر؟
ليست العوامل خاصة بالتأكيد بل عامة ابرزها الآتي:
- فصل السنيورة موقفه الواضح والمعروف من رئيس الجمهورية العماد اميل لحود عن موقفه كرئيس للحكومة عليه واجب المساهمة في انقاذ البلاد من المشكلات الكثيرة والكبيرة والخطيرة التي تتخبط فيها وعلى كل الصعد. فهو كان ولا يزال مع تنحيه او استقالته. لكن الموقف المبدئي هذا لم يمنعه من التعاون معه انطلاقا من الدستور ووفقاً لاحكامه. ودافعه الى ذلك كان ان حسم الموضوع الرئاسي امر قد يطول وان مسؤولية هذا الحسم تتوزع على جهات كثيرة داخلية واقليمية وربما دولية ليس بينها الكثير من الوفاق والوئام. وكان ايضا ان لبنان لا يستطيع تجميد السعي لحل مشكلاته ريثما يتم الحسم المذكور. اذ ماذا يحصل لو حصل المستحيل واكمل لحود ولايته الممددة؟ والجواب عنده كما عند كثيرين غيره هو ان ذلك يفرط البلاد او يغرقها في اتون من عدم الاستقرار والفوضى الامر الذي يجعل انقاذها لاحقا صعبا جدا. وكان الدافع ثالثا ان بقاء لحود في سدة الرئاسة قد يعوق اكتمال التغيير الذي نشده اللبنانيون وتحديدا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكنه لا يعطل مسيرة اعادة البناء التي كان بدأها الاخير والتي على سلفه متابعتها لاسباب عدة منها تحول المزاج الشعبي والتغيير الكبير في مجلس النواب وفي الاجواء الاقليمية والدولية وذلك خلافا للحال التي كانت سائدة قبل التمديد الرئاسي وما تلاه. وكان الدافع رابعا واخيرا وعي السنيورة حساسية موقع رئاسة الجمهورية عند اللبنانيين وتحديدا عند المسيحيين منهم وادراكه اهمية احترام هذه الحساسية لاستقامة الحكم في لبنان بل قبل ذلك لانجاز عملية التغيير فيه باجماع شعبه.
- التقيد بفصل السلطات المنصوص عليه في الدستور، فالسنيورة يترأس السلطة التنفيذية التي يمثلها مجلس الوزراء ومجلس النواب برئيسه والاعضاء يمثلون السلطة الاشتراعية.
على الاولى العمل والتنفيذ. وعلى الثانية المساءلة والمحاسبة. وقد ظهر التقيد المذكور بوضوح منذ تأليف الحكومة. اذ لم تعقد بين السلطتين او بين رئيسيهما ومع رئيس الدولة اي صفقة او اي "بازار" خلافا لما كان يجري في السابق. وانطلق رئيس السلطة التنفيذية من حرصه على ان يمارس مجلس النواب محاسبته لها وعلى ان ينزع منها الثقة اذا اراد ومن حرصه ايضا على دفع الوزراء الى العمل بعيدا من الضغوط المتنوعة ومن حرصه اخيرا على ان "يتعود" اللبنانيون اتخاذ القرارات انطلاقا من الدستور والقوانين وعدم انتظار التسويات والصفقات والبازارات والتعليمات. استنادا الى كل ذلك بدأ السنيورة تجربة التوظيف الجديدة في المراكز القيادية بحسب المقاييس العالمية. فنشر اعلانات في الصحف العالمية والمحلية عن الحاجة الى قيادات وظيفية معينة وتلقت لجنة مختصة الفها 120 طلبا تحاول الانتقاء منها. وهو لم يتدخل بل لم يطلع على اسماء اصحاب الطلبات. طبعا يعرف رئيس الحكومة ان هذا الامر يقتضي موافقة مجلس النواب على قانون معروض عليه في هذا الخصوص. لكنه يعرف ان المحاولة مفيدة وان مجلس النواب قد لا يخذلها.
- احترام استقلالية القضاء. وتجلى ذلك عندما استقبل الرئيس السنيورة مجلس القضاء الاعلى للمرة الاولى وقد تكون الاخيرة. اذ وجه اليهم اربع رسائل بعضها مباشر وبعضها "مشفر". اولاها، انه لن يتدخل في القضاء ايا تكن الاسباب والموجبات. وثانيتها، انه لن يسمح لاحد بالتدخل في القضاء وعمله. طبعا يدرك السنيورة هنا ان اتفاقات قد تحصل في الخفاء اي في غرف مقفلة تؤثر على القضاء. لكنه سيحرص على تضييق امكانات حصول ذلك وعلى مكافحته اذا حصل. وثالثتها، دعوة القضاء الى تنظيف نفسه وبيته لانه ادرى بالاثنتين، وذلك امر ممكن لان احد القوانين المتعلقة بالقضاء ينص على ذلك في احدى مواده التي تحمل الرقم 95. أما رابعة الرسائل، وهي المشفرة ربما، فكانت بما معناه اذهبوا وتابعوا عملكم وباشروا الاصلاح والتنظيف وانا لا اريد ان اراكم بعد اليوم.
رجل الدولة هذا الذي ظهر في الرئيس فؤاد السنيورة كيف سيتعاطى مع القضايا الاخرى المهمة والمتعثرة في لبنان، وهي كثيرة من سياسية وغير سياسية؟