نشرت جريدة "تشرين" الرسمية يوم 30/10/2005 في صفحتها الأولى خبرا، عنوانه: «معارضون» في الخارج التقوا مسؤولين إسرائيليين؛ «الإخوان» حاولوا الاتصال ببوش؛ والغادري وعد بمتحف لضحايا اليهود!!". السوري المهتم كان قرأ الخبر ذاته قبل يومين في جريدة "الحياة" نقلا عن موقع "العربية نت". وفاء منها للخصوصية السورية، سرقت "تشرين" خبر "الحياة" بعد أن حولته من المثنى (معارضان) إلى الجمع (معارضون)، وغيرت عنوانه ليناسب ذوقها ومستوى أمانتها، وأجرت على متنه تعديلات شكلية طفيفة، وحذفت بضعة سطور دالة من آخره لأسباب تتعلق بـ"رسالتها" الإعلامية وحساسياتها "الوطنية" العليا.
"المعارضون" السوريون في الخبر هما نبيل فياض وفريد الغادري. الثاني منهما رجل أعمال أميركي ناجح، شكل قبل عامين حزبا أسماه "حزب الإصلاح السوري"، ويرغب أن يحكم سوريا من باب التنويع.
أما الأول فقد اشتهر بثلاثة أشياء. أولها كتابته المقذعة في هجومها على الإسلام، والناشرة لثقافة الكراهية. ثانيها أنه حبس شهرا في خريف العام الماضي وخرج من سجنه منوها بحسن تعامل أجهزة الأمن معه: كانوا يجيئون له بالحليب مع الفريز والبطاطا الشيبس ويغسلون شعره بالشامبو ويدلكون جسمه بالكولونيا. ثالثها أنه سافر إلى الولايات المتحدة بعد أن أعلن انه سيغادر هذا البلد إلى أي مكان يعطيه جواز سفر؛ وعاد بعد أسابيع بانتساب معلن إلى حزب فريد الغادري، وأعلن فيما بعد أنه التقى إسرائيليين هم الذين يتحدث عنهم الخبر الذي سرقته "تشرين". من هؤلاء ناتان شارانسكي، أحد ملهمي بوش الفكريين، والوزير الإسرائيلي الذي استقال من الحكومة احتجاجا على اعتدال شارون وخطته للانسحاب من غزة؛ و"معاون وزير الدفاع آفي ديختر، ورئيس الاستخبارات العسكرية السابق، والوزير الحالي مئير شيتريت، إضافة إلى جماعة السفارة في واشنطن". أصالة "تشرين" تجلت هنا في عدم إجادة السرقة: أخطأت في نقل أسماء الشخصيات الإسرائيلية التي التقاها معارضها. ديختر صار ليشتر، وشتريت صار شيتليت.
"المعارض" الذي التقى بإسرائيليين يقيم اليوم في دمشق لا في غيرها. وهو لم يعتقل، ولم يقدم للمحاكمة، ولم يرفع الأمناء على أخلاقنا الوطنية دعوة أمام القضاء العسكري أو المدني أو محكمة أمن الدولة العليا. نذكر أنه في اليوم ذاته الذي نشرت فيه "تشرين" خبرها المسروق كان الكاتب علي العبد الله، الذي عمل سابقا مع منظمة التحرير الفلسطينية، يحاكم أمام محكمة امن الدولة "القيام بدعاية للنيل من هيبة الدولة ونقل أنباء كاذبة!!"
يتذكر المرء أن وكلاء النظام كانوا يأخذون على رياض سيف أنه صديق دبلوماسيين وشخصيات غربية، بينهم الباحث الألماني البارز فولكر بيرتس. وكانت جريدة "المحرر نيوز"، قبل أن تحول اسمها إلى "المحرر العربي"، والتي يرأس تحريرها والد فريد الغادري، هي المنبر المفضل لهؤلاء.
لا يتمتع كاتب هذه السطور بمواهب بوليسية ذات شأن، لكن رجلا يعيش في دمشق، وينتمي إلى حزب الغادري (أعلن الحزب بعد أسابيع من عودة فياض إلى دمشق أنه "رقن قيده"، ما قد يعني انه جمد عضويته أو فصله)، ويلتقي برسميين من دولة نحن وهي في حالة حرب بشهادة حالة الطوارئ التي لا تكذب (في عقيدة جريدة "تشرين" على الأقل)، والتي اعتقل وعذب وقتل وحوكم آلاف المعارضين السوريين تحت رايتها الخفاقة منذ اكثر من 42 عاما، أقول رجل كهذا يتمتع بحماية لا يتمتع بها لا معارض ولا مواطن عادي ولا حتى مسؤول متوسط المرتبة. إنه النقيض التام والدقيق للمعارض السوري. لكن الضمير المهني لـ"تشرين" يريد أن يجمع المجدين: مجد إدانة "معارضها" للمعارضة، ومجد حسبانه منها في الوقت نفسه. ليست الانتهازية رذيلة طارئة في إعلام الشمولية، إنها طبعه الأصيل.
على أن "تشرين" ليست ساذجة وتعرف ما تريد. لا صديق الإسرائيليين ولا صديق الأميركيين يشغلان بالها. في ختام خبرها المسروق فقط نجد "الطائر المحكي". تقول الجريدة الرسمية: "وكان نبيل فياض نشر مقالة انتقد فيها إعلان دمشق للمعارضة السورية، وقال: برمج الإخوان المسلمون بالريموت كنترول معظم القوى السنية في سورية، من العلمانيين إلى الناصريين إلى أدعياء حقوق الإنسان، وأصدروا ورقة نعية نشتمّ منها بوضوح أن سورية ستنتقل بإذن الله تعالى إلى رحمته".
القوى السنية في سوريا؟ لم نفهم! نريد من "تشرين" شرحا. أهذا خطاب طائفي صريح أم يشبهه فقط؟ وهل"القوى السنية في سوريا" هي اسم آخر، جديد، للمعارضة؟ تشرين تجيد ترتيب أعدائها. تعادي "إعلان دمشق" أكثر بألف مرة مما تعادي من يتصل بهم "معارضوها"!
لنعف عن هذا العبث المسف وغير المسؤول، والذي نتوقع المزيد منه في الفترة القادمة. ولنحاول فهم منطقه إن كان له منطق: كيف يستقيم اتهام "الإخوان" بمحاولة "فتح خط" مع الإدارة الأميركية حسب رواية "تشرين" عن "معارضها"، بينما لدينا "معارض" يسرح ويمرح، وقد اتصل بالإسرائيليين بالذات؟ ومنذ متى صار طبيعيا أن تجد "معارضا"، أو مطلق مواطن سوري، يتصل بمحتلي الجولان، وبدل أن يتهم في وطنيته يغدو مصدرا للأخبار الموثوقة في الصحافة البعثية؟ الجواب معروف!
قد يخطر ببالنا دعوة رئيس تحرير هذه الجريدة البائسة إلى الاستقالة إن كان لديه بقية حس بالمسؤولية. لكن هذا خطأ. الأفضل أن يترك الشائن ينشر مخازيه حتى النهاية بكامل الحرية.