أعدّ المحافظون الأميركيون الجدد إستراتيجيتهم الانقلابية الدولية في عقد التسعينات الماضي، وقد ضمنوها خططاً وعمليات انقلابية تستهدف جميع بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني! لقد كانوا يعملون كي يكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً صهيونياً خالصاً! وكانوا يرون أن هذا العالم المضطرب مادياً ومعنوياً، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جاهز للانصياع لمبادرة شجاعة تقوّضه وتعيد ترتيبه حسب هواهم وتحت قيادتهم! وكانوا في الوقت ذاته يخشون تبلور قوى دولية جديدة، تعيق مشاريعهم إن لم تقوضها، كالصين مثلاً، ولذلك تعجّلوا إطلاق مبادرتهم. ولقد كان واضحاً لهم منذ البداية أن نجاح خطتهم يستدعي السيطرة على مصادر الطاقة ما بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي، وهم اكتشفوا مبكراً أن احتلال العراق وامتلاكه بالكامل هو الخطوة الأولى للسيطرة على مجمل منطقة الطاقة المسماة بمنطقة الشرق الأوسط، والتي صارت تشمل آسيا الوسطى. وهكذا وضعت عملية احتلال العراق باعتبارها الركن الأساسي في إستراتيجيتهم الانقلابية الدولية، بل إنها اعتبرت مفتاح العمليات التي من دونه لا يمكن انطلاقها، وهم كانوا على حق بالطبع!
***
قبل أن يصل المحافظون الجدد إلى البيت الأبيض، مطلع العام 2001، انصرفوا بكل طاقاتهم لإعداد كل ما من شأنه تأمين النجاح لإستراتيجيتهم الانقلابية العالمية. وقد شملت عملية الإعداد كلاً من الأصدقاء والأعداء، نذكر منها، على سبيل المثال، مطالبة الإسرائيليين بتغييرات جذرية في بنيتهم الداخلية الاقتصادية والسياسية بما يتفق مع تركيبة العالم الأميركي الصهيوني في القرن الحادي والعشرين. وقد لبى الإسرائيليون الدعوة منذ عام 1997، فساروا في اتجاه الخصخصة على نطاق واسع، وأضعفوا نظام الكيبوتز وفعالية الهستدروت، فانعكس ذلك سلباً على بنيتهم العسكرية، ليحصدوا نتيجته فشلاً ذريعاً في حربهم الأخيرة ضد لبنان، وهي الحرب التي ما كانت لتفشل، أو ما كانت لتنشب ربما، لو أن الأميركيين نجحوا في الاستيلاء على العراق!
ونذكر على سبيل المثال أيضاً أنهم انطلقوا يعدّون الكوادر في مختلف بلدان العالم، وأولها البلدان العربية، فصار لهم في كل مكان دعاة أتباع يبشرون ببزوغ فجر ليبرالي ديمقراطي عالمي مركزه واشنطن! وقد رأينا دور هؤلاء الدعاة الأتباع، حيث انخرط عراقيون في عملية التحضير لاحتلال بلدهم ثم في عملية تنفيذها! غير أن فشل الأميركيين في السيطرة على العراق وتملكه أفقد هؤلاء الدعاة الأتباع حماستهم وزخمهم، فتواروا عن الأنظار إلى حد كبير في مختلف البلدان!
***
كما أشرنا، كانت عملية احتلال العراق والنجاح في السيطرة عليه وتملّكه هي الركن الأساس في الإستراتيجية الأميركية الجديدة، الانقلابية الدولية. لقد كانت العملية المفتاح التي راح جورج بوش يستعد لها منذ وصوله إلى السلطة مطلع عام 2001، معتبراً تحقيقها مضموناً مئة بالمئة! غير أن تلك التقديرات لم تكن صحيحة، حيث فاجأهم العراق بمقاومة فعالة متصاعدة وضعت إستراتيجيتهم الانقلابية الدولية بمجملها في مهب الريح. وها هم اليوم يتخبّطون أكثر فأكثر على أسوار بغداد، بينما العالم من حولهم يزداد وحشة وغموضاً!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التطورات الدولية، خلال الربع الأخير من القرن العشرين، كانت غير مطمئنة، بل مقلقة للإدارات الأميركية المتعاقبة، وتلك التطورات كانت من الأسباب التي أدت إلى ظهور المحافظين الجدد، حيث راحت الأسئلة تتوالى بصدد مصير القرن الحادي والعشرين: هل سيكون قرناً أميركياً أم أنه سيصبح آسيوياً؟! لقد كان هناك من رأى مركز القوة العالمي وهو يوشك أن ينتقل إلى آسيا، وأن نهوض آسيا أصبح موضوع اللحظة التاريخية الراهنة، كما تشير الدلائل في الصين والهند وغيرهما!
لقد كان الأميركيون يتابعون بقلق شديد تحوّل الصين بسرعة إلى محور للتصنيع العالمي، وكذلك عملية النمو والتنمية الهائلة في الهند التي تملك (على سبيل المثال) شركة ميتال الهندية التي أصبحت أكبر شركة لصناعة الفولاذ في العالم! وكان ذلك يعني حاجةً آسيوية متعاظمة للنفط، وهو المادة المحددة المواقع والمحددة الكمية، ومن هنا ولدت إستراتيجيتهم الشيطانية، الانقلابية الدولية، التي تقتضي احتلال العراق وتملكه كخطوة مفتاحية لا بد منها نحو السيطرة على مجمل منطقة الشرق الأوسط، حيث بنجاح هذه العملية سوف يمسكون بخناق القوى الآسيوية وغير الآسيوية، الصاعدة والمزاحمة، ويحافظون على مركزهم الدولي المهيمن طوال القرن الحادي والعشرين!
***
إن من لا يرى هذا البعد المركزي الدولي في عملية احتلال العراق لن يرى ولن يفهم شيئاً على الإطلاق، وسوف تفوته المعاني التاريخية العالمية العظيمة الأهمية لصمود الشعب العراقي البطل، الذي جعل الإستراتيجية الأميركية الشيطانية تتعثر وتتخبط منذ أيام الاحتلال الأولى، وتصبح في مهب الريح. وإنه لمن المؤسف أن يرى البعض في المشهد العراقي مجرّد فوضى وجرائم واشتباكات عشائرية أو طائفية أو مناطقية، بينما مصير مركز القوة العالمي يتقرر حقاً على أسوار بغداد!
إن الإدارة الأميركية، وهي توالي محاولاتها لإنقاذ إستراتيجيتها الانقلابية العالمية في بغداد، تعدّ العدّة في حال الفشل لإقامة شراكة دولية مركزية مع دول آسيوية، قوية ونشيطة، تؤكد حضورها العالمي يوماً بعد يوم، حتى وإن كانت معادية تاريخياً للولايات المتحدة، وفيما لو نهضت مثل هذه الشراكة، كأمر واقع، فسيكون ذلك من جهة على حساب مصالح الأوروبيين، ومن جهة أخرى على أنقاض العرب وأشلائهم إذا لم يرتقوا في خطابهم وأدائهم إلى مستوى اللحظة التاريخية الانقلابية النادرة التي يجتازها العالم!
من حق العرب احتلال موقع لائق في النظام الدولي الذي تتبلور ملامحه اليوم في بغداد، فهم جبهة الحرب الفعالة الوحيدة ضدّ هيمنة وطغيان الأميركيين، وبفضل مقاومتهم تنهض القوى العالمية الجديدة، فإذا لم ينالوا حقهم فإن السبب يعود إليهم وحدهم!