لا يستطيع العالم أو الخبير أو القاضي القول بأن الإنسان عموماً سارق أو قاتل أو مدمّر للبيئة، فلكل فعل محدّد فاعل محدّد
لا يستطيع العالم أو الخبير أو القاضي القول بأن الإنسان عموماً سارق أو قاتل أو مدمّر للبيئة، فلكل فعل محدّد فاعل محدّد، غير أن السيدة سوزان سولومون فعلت ما لا يجوز فعله عندما أعلنت رسمياً ما يلي: ثمة أدلة متقاطعة تظهر أن الاحتباس الحراري هو بشكل أساسي من فعل الإنسان! لقد أرادت تبرئة الطبيعة من المسؤولية الأساسية، لكنها – وياللعجب- عممّت التهمة على الإنسانية، بينما كان يتوجب عليها توجيه الاتهام مباشرة وبوضوح إلى الرأسماليين الاحتكاريين الشرهين أشباه الإنسان، فكان موقفها مشيناً حقاً!
تشغل السيدة سوزان سولومون منصب رئيس مجموعة العمل العلمي في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، وهي التي عرضت خلاصة التقرير المناخي الذي صدر في باريس بعد مفاوضات جرت داخل جلسات مغلقة استمرت أسبوعاً (حتى الثاني من شباط/ فبراير 2007) وحضرها علماء وخبراء من 130 دولة بلغ عددهم 500 مشاركاً، أما الجهة الراعية فهي هيئة الأمم المتحدة التي أنشأت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ في العام 1988.
إكسون موبيل ترشو العلماء!
عندما نؤكد على الموقف المشين، في تعميم مسؤولية تدمير البيئة والمناخ على الإنسان عموماً، أي تبرئة المجرم المحدّد من جريمته المحدّدة، لا نكتفي بتصريح السيدة سولومون، بل نأخذ بالاعتبار الإشارة إلى (المفاوضات التي جرت داخل جلسات مغلقة!) فأية مفاوضات ولماذا الجلسات مغلقة في مؤتمر علمي كهذا المؤتمر؟ الجواب هو: إنها مفاوضات تعني ضغوطاً من قبل طرف على طرف بصدد الوقائع والاستنتاجات، وإنها جلسات مغلقة كي لا تتسرب الوقائع والاستنتاجات وعناوين الجهات المحدّدة المسؤولة عن الدمار في البيئة والمناخ! وبالفعل، لو أن الإنسان عموماً هو المسؤول عن هذه الكارثة العامة لما كان ثمة ضرورة على الإطلاق للجلسات المغلقة والمفاوضات السرّية، بل كانت أعمال الهيئة تبثّ على الهواء مباشرة!
ومع أن القضية لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتفصيل فلا بأس من الإشارة إلى ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية يوم انتهاء أعمال الهيئة (2/2/2007) والذي جاء فيه أن مركز أبحاث أميركي، تموّله مجموعة "إكسون موبيل" العملاقة، بعث رسائل إلى علماء أميركيين وبريطانيين، ومن جنسيات أخرى، يعرض عليهم فيها مبالغ مالية مقابل تقديمهم معلومات تؤكد وجود شوائب في الاستنتاجات التي تضمنها تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ! فإذا كان لتعميم المسؤولية على الإنسان عموماً صلة بضغوط مجموعة "إكسون موبيل" يصبح موقف الهيئة المعلن أكثر من مشين، ويبلغ مستوى المشاركة في الجريمة!
أخطار ماحقة تهدّد الأرض!
إن العالم محكوم اليوم بعقلية إمبراطورية، وبإدارة إمبراطورية، وبطبقة إمبراطورية، كما كان حاله في مختلف عهود هذا العصر الأوروبي الأميركي على مدى القرون الخمسة الماضية. وعندما نقول: إمبراطورية، فنحن نعني بالضبط: امبريالية! والامبريالية تعمل دائماً، في كل زمان ومكان، على إخضاع الأمم واستعبادها لصالح النخبة الارستقراطية في المراكز والأطراف، وهكذا فليس غريباً أن تحاول الشركات الاحتكارية العملاقة رشوة العلماء والخبراء، بل قتلهم إذا لم ينصاعوا والتزموا الأمانة العلمية والأخلاقية، وبالتالي ليس غريباً أن حكومة الإمبراطور جورج بوش الثاني انسحبت عام 2001 من اتفاقية كيوتو، حيث قال بوش مبرراً الانسحاب: إن القيود التي تفرضها الاتفاقية على الانبعاث الحراري تضرّ بالاقتصاد الأميركي! ومنذ ذلك التاريخ تحارب إدارته العمياء الباغية جميع العلماء الذين يحذّرون من ظاهرة الاحتباس الحراري وكوارث البيئة، خاصة في الولايات المتحدة!
لقد لجأت إدارات الارستقراطية العالمية إلى أحط الأساليب في حربها ضدّ الذين يحذّرون من الأخطار الماحقة التي تتهدّد كوكب الأرض، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو دولة كوبا المحاصرة منذ نصف قرن، فهذه الدولة تقدمت إلى مؤتمر دول عدم الانحياز (عام 1983؟) بتقرير ضخم من مئات الصفحات، تضمن جميع الأخطار الماحقة التي وضعت البشرية على حافة الهلاك، وفي جملتها قضية الاحتباس الحراري التي شغلت وحدها مؤتمر باريس الأخير! وينبغي الانتباه إلى أن التقرير الكوبي سبق بخمس سنوات على الأقل مبادرة هيئة الأمم بتشكيل مؤسسة تعني بكوارث المناخ!
الاضطراب المخيف والحل الوحيد!
إن الأخطار الماحقة التي تهدّد اليوم كوكب الأرض لا تقتصر فقط على ظاهرة الاحتباس الحراري، ولا تعود فقط إلى أنماط الصناعة، بل هي نتاج النظام الذي يحكم العالم والعقلية التي تقوده، فهو نظام يقوم على سوء استخدام جميع القوى والموارد البشرية والطبيعية في العالم أجمع، ليس سوء استخدام، بل استخدام إجرامي لجميع القوى والموارد، وأولها القوى البشرية. إنه الاستخدام الإجرامي الذي يفتك بالأرواح والأنفس والعقول، ويدمّر الحياة في البحار والأنهار ويسمم المياه الجوفية، ويتلف الغابات والحقول والتربة، ويبيد أسراب الطيور وقطعان المواشي! إن البحر الأبيض المتوسط يسمى اليوم: مرحاض العالم! والغابات الاستوائية، التي تشكل رئة هذا العالم، تكاد تجتث عن بكرة أبيها على أيدي الشركات الاحتكارية! إن كوكب الأرض يتعرض لاضطراب مناخي مخيف حقاً، والمسؤول عن ذلك ليس الإنسان، كما قالت السيدة سولومون، بل القراصنة القتلة الذين يدمرون بلادنا ويحاولون إبادتنا، كما في فلسطين والعراق وغيرهما، وهذا ما كان ينبغي على مؤتمر باريس إعلانه بوضوح وشجاعة لتلافي الأخطار المحدقة بالإنسان والطبيعة، علماً أن تلافيها مازال ممكناً، بالخلاص من هذا النظام العالمي الاحتكاري الربوي، الأرستقراطي الامبريالي!