تجاور لبنان دولتان فقط، سورية وإسرائيل. وهما دولتان متعاديتان منذ قامت الثانية بالقوة على أرض فلسطين عام 1948. وتجمع لبنان إلى سورية لغة واحدة ونسيج اجتماعي من أصول متداخلة وتقارب ثقافي متعدد المستويات وتاريخ نشوء متقارب أيضاً. لكن البلدين يفترقان على مستوى نظاميهما السياسي والاقتصادي. في المقابل، ليس ثمة مشتركات من أي نوع تقرِّب لبنان من إسرائيل. وعلى رغم أن المشتركات ليست هي العنصر الحاسم في تحديد نوعية العلاقات بين الدول، ما تشهد به العلاقات البينية بين الدول العربية التي تتراوح بين حذرة وسيئة، إلا أن الميل المبدئي المتولد عنها هو العداوة نحو دولة اليهود والصداقة تجاه سورية.
على أن استقراء السجل التاريخي الفعلي يفيد أن لبنان لم يتوحّد في أي يوم من الأيام على علاقة عداء فعالة أو مواجَهة مع إسرائيل، لا في مرحلة 1948- 1968، ولا في مرحلة 1968-1982، ولا في الزمن الممتد من عام خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان حتى يومنا. في كل مرة دخل لبنان أو قوى لبنانية أو مقيمة في لبنان في مواجهة مسلحة مع إسرائيل، انقسم اللبنانيون على بعضهم وتدهور تفاهمهم الوطني. وفي المقابل، لم يتوحد لبنان قط حول علاقة حميمية جداً أو «أخوية» مع سورية. لقد استثارت الأخوة» السورية - اللبنانية المفروضة بين عامي 1990 و2005 نفور وانكفاء قطاعات ليست هينة من المجتمع اللبناني، وآلت في النهاية إلى طلاق مع عداوة. وهذا يصلح برهاناً على المبدأ نفسه فإن لم تثر «الأخوة» نقمة أطراف لبنانية وازنة (وقد أثارت)، فستتلوها مرحلة عداوة قد تنقضي سنوات قبل أن ترسو العلاقة بين البلدين مجدداً على أسس أقل تقلقلاً (ولا نقول أكثر ودية). يصح القول، تالياً، إن لبنان لا يتوحد حول محاربة إسرائيل أو حول «الأخوة» مع سورية. خلافاً، في الحالين، لما ترتبه الفكرة القومية العربية على المشتركات الموروثة بين البلدين.
ولا يمـــس صواب القاعدة المزدوجة هذه شهادة التاريخ ذاته بتعذر أن يكون لبنان معادياً لسورية أو صديقاً لإسرائيل، مع ما يعنيه التعذر في هذا المقام من انقسام اللبنانيين المحتوم إن فرض أي من هذين الخيارين. وهو ما حصل فعلاً في الماضي، ولعله يحصل اليوم (بصرف النظر عن المسؤوليات).
إذا سلمنا بسداد هذه التقديرات، والتاريخ القريب يثبتها بلا ريب، فإن أوسع إجماع لبناني يمكن أن يقوم على علاقة ليست «أخوية» مع سورية إلى درجة الافتئات على استقلال لبنان وسيادته، وليست عدائية إلى درجة استثارة عداء سوري مضاد ومؤذٍ. إنها علاقة صداقة وثقة وتوازن مصالح. خلاف ذلك يتسبب في تنازع اللبنانيين وربما في تضعضع كيان بلدهم. ولما كان تفكك الإجماع اللبناني يفتح أبواباً واسعة للتدخلات الخارجية، ما يدفع إلى إقلاق سورية وإضعاف تأثيرها في لبنان، فإن أعقَل سياسة سورية حيال لبنان هي تلك التي يمكن أن يتكون حولها إجماع لبناني وهو ما يعني أن على سورية أن ترضى بما هو أقل من «أخوة» كي تتجنب الانزلاق إلى ما هو أكثر من جفاء. أن ترضى كذلك بما هو أقل من مجابهة لبنانية مع إسرائيل من أجل أشد تضييق ممكن لاحتمالات تحالف لبنانيين مع إسرائيل أو استعانتهم بها ضد لبنانيين آخرين.
ما يعني كذلك أن النظرية الموجهة للعلاقات السورية - اللبنانية لا يمكن أن تكون واحدة من اثنتين: القومية العربية التي، إذ تمذهب العروبة تقلل فاعليتها التوحيدية، بل تجعل منها عاملاً تقسيمياً، و «القومية السورية» التي تطابق بين المصلحة الوطنية السورية وما يصادف أن تكون مصلحة النظام في هذا الوقت أو ذاك. النظرية الأولى أشد تصلباً وجموداً من أن تلبي مطالب المرونة السياسية وحسن التوجه في أوضاع معقدة، والنظرية الثانية أشد سيولة من أن تبنى عليها سياسة متماسكة.
معلوم أنه في الواقع العملي تتخفى النظرية الثانية وراء الأولى التي تقدم للسياسة الممارسة تبريراتها المعلنة. لكن كما لا تصلح «النظرية القومية العربية» أساساً نظرياً للمصلحة الوطنية السورية حيال لبنان أو غيره لانفصالها عن الواقع، فإن «النظرية القومية السورية» لا تصلح كذلك لانفصالها عن أي مبادئ عامة متسقة.
ومن تلقائه، لا يجنح أوسع إجماع لبناني إلى مناهضة سورية أو الكيد لها، بل هو بالفعل جهاز ضابط لتوازن العلاقة السورية - اللبنانية. جهاز ضابط بمعنى أن كل ما يضعف الإجماع اللبناني يستثيـر تلقائياً طلباً مرتفعاً على تدخلات خارجية، يجعل سورية طرفاً بين أطراف كثيرة، أقوى منها، ما يقود إلى إضعافها وإقلاق راحتهـــا؛ وكذلك بمعنى أن كل ما يضعف سورية أو ينال منها لا يجمع اللبنانيـــون عليه أصلاً. ما يجمع عليه اللبنانيون، في المقابل، أي علاقة إيجابية مع سورية، هو الأساس الأمتن للتقليل من التدخلات الخارجية في لبنان، وتالياً تثقيل وزن سورية في المجال الإقليمي والدولي.
كل هذا يجعل من الإجماع اللبناني مقياساً ذهبياً لسلامة السياسة السورية. وهو يحيل في تقديرنا إلى وزن المشتركات بين البلدين، هذه «اليد الخفية» التي توجه السياسة بصورة خفية نحو التقارب والتفاهم، وإن كان تسييسها المباشر يعطي نتائج عكسية، كما يشهد تاريخ العلاقات السورية - اللبنانية الموسوم بالحذر والشقاق وعدم الثقة. المشتركات عظيمة الأهمية، طالما يتم الإقرار بأنها بين بلدان مستقلة وسيدة فعلاً.
مضمر في هذا التحليل أن العلاقة بين سورية وإسرائيل ستبقى تتراوح بين عداء نشط وجفاء، ما يجعل من علاقة سورية - لبنانية طيبة عنصراً حاسماً في الحد من مفاعيل الأرجحية الإسرائيلية. وواضح في هذا السياق أن إسرائيل هي من يستفيد من تفكك الإجماع اللبناني لأنه يتيح لها دوماً التدخل في لبنان، ويوسع قاعدة حلفائها المحتملين. وكما أنه لا يمكن أن يقوم إجماع لبناني ضد سورية، الأمر الذي يوجب على سورية أن تقيس علاقتها مع لبنان على مؤشر الإجماع اللبناني، فإن إسرائيل تدرك جيداً أنه لا يمكن أن يقوم إجماع لبناني على الود حيالها، لذلك تفضل ألا يقوم إجماع لبناني أبدا. وهذا مسوغ أخر لمزيد من الحرص السوري على التفاهم الوطني اللبناني.
في الراهن اللبناني نرصد مستوى عالياً من تفكك الإجماع الوطني، ومن انكشاف الداخل اللبناني ووفرة التدخلات الخارجية فيه، ومن تشجيع سوري لسياسة المحاور في الحياة السياسية اللبنانية، السياسة التي اقترنت على الدوام بإقحام لبنان في المحاور الإقليمية والدولية. هذا تماماً نقيض ما يؤمل، إن من وجهة نظر المصالح الوطنية السورية أو من وجهة المصالح اللبنانية.
علــى أن لبنان ليس محض «ساحة» سلبـــية ضمن هذه اللوحة. فخيـــارات لاعبين لبنانيين هي التي تستدخل خوارج متعددة لمواجهة لاعبين لبنانيين آخرين. وتفاهم اللاعبين هنا وهناك هــــو مـــا من شأنـــه أن يرمم التفاهم أو الإجماع اللبناني، وأن يضيّق مساحة التدخلات الخارجية؛ وأن يخرج لبنان من أزمة كيانية قد تكون قاضية.