ينقسم البيت الماروني اليوم الى عدة غرف وطوابق، تتوزع فيها القوى السياسية، من جهة «القوات اللبنانية» والقوى المسيحية في السلطة، ومن جهة أخرى «التيار الوطني الحر» و«تيار المردة» والقوى المسيحية الأخرى المعارضة. هذا الانقسام يترافق مع خلاف على الأولويات ولا سيما مع «عجقة» الاستحقاقات على الساحة السياسية اللبنانية، من تأليف حكومة وحدة وطنية إلى إقرار المحكمة الدولية فالانتخابات النيابية المبكرة وصولاً الى الاستحقاق الأكبر، رئاسة الجمهورية اللبنانية، الذي بات وشيكاً.
وعلى الرغم من الدعوات للوحدة والمصالحة، ومحاولات جمع البيت الماروني ودعوات بكركي المتكررة لنبذ الانقسام وتوحيد الأولويات، يبقى المشهد الماروني مشتتاً وملفوفاً بالضباب والغيوم بين جبهتين أساسيتين تُضاف إليهما تيارات وقوى وانقسامات ومحاولات إنشاء تيار ثالث على أنقاض قرنة شهوان واللقاء التشاوري وسائر الفروع والأقسام.
كذلك تزايد شعور الجمهور الماروني بغياب دوره وحضوره خلال مشهد الحوار الثنائي بين بري والحريري، وصورة اجتماعات رايس بجنبلاط والحريري ولقاءات الحريري والسنيورة وجنبلاط مع بوش وغيرها. وقد كُتب الكثير عن هذا الغياب أخيراً، ما فاقم شعور الماروني العادي بأن دوره مهمّش، فأضحى كمن «يشحد» دوراً فقده، أو كمن يراهن على وهم غير ممكن التحقق في موازين القوى على الأرض.
فهل يؤدي هذا المشهد الى نهاية سلطة الموارنة في لبنان؟
الموارنة عبر التاريخ
يشكل الموارنة الجزء الأكبر من المسيحيين في لبنان، وقد استمدوا تاريخياً دورهم السياسي من قوتهم الذاتية التي تمثلت في قدراتهم الاقتصادية والعلمية والتربوية التي مكّنتهم في المراحل المختلفة التي مرت بها البلاد، من تأدية دور سياسي كبير وبارز وفعّال ساهم في تشكيل صورة لبنان وأوضاعه على مثالهم. كذلك استمدوا نفوذهم من خلال خبرتهم الكبيرة في الترجمة والتعريب والنقل، إضافةً الى كونهم جسراً للوساطة التجارية بين ضفتي المتوسط وما لهم من علاقات متينة بين الشرق والغرب.
هذا بالإضافة الى دور الكنيسة المارونية التي عُرفت بتنظيمها وقوتها الشعبية وقدرتها على التماسك والتأثير في صفوف رعاياها وتوحيدهم عبر الرهبنات والأوقاف والمؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية والأبرشيات التابعة لها. هذا الأمر منح الموارنة نقطة قوة عبر مسيرتهم التاريخية، وتبلور ذلك في امتيازات عدة منها احتكار موقع رئاسة الجمهورية وصلاحياته وقدراته الواسعة والمؤثرة، ولا سيما كون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش، ما يحصّن بالتالي نفوذ قائد الجيش الماروني أيضاً، بالإضافة الى نفوذ القوى الأمنية والأجهزة التي كانت حكراً على الموارنة.
باختصار، استمد الموارنة سلطتهم من نفوذ الكنيسة المارونية وامتيازات رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، في ظل تماسك القوة السياسية المارونية على رغم الخلافات والصراعات التي وقعت أحياناً داخل الطائفة.
من مرحلة الاستقلال إلى الطائف
لكن ما الذي حدث وأضعف هذا الدور الكبير للموارنة في لبنان؟ في مرحلة الاستقلال، كانت الأولويات كلها تتجه الى بناء الدولة اللبنانية المستقلة وإدارة شؤونها، وكان جزء كبير من هذه المسؤولية ملقى على عاتق السياسيين الموارنة. لكن هؤلاء السياسيين فشلوا في إدارة شؤون البلاد خلال مرحلة الاستقلال وإن بصورة متفاوتة، وتراكمت أخطاؤهم نتيجة عجزهم عن استيعاب المتغيرات الاجتماعية والوطنية، ولا سيما مطالبة فئات لبنانية محرومة بحقوقها الاجتماعية ودعوة شرائح أخرى الى المشاركة السياسية. هذا الوضع أدى الى انكشاف الساحة اللبنانية واشتعال حروب أهلية مدمرة متداخلة مع الصراع الإقليمي والدولي، تكررت خلالها سيناريوهات الفشل مع جنرالات الموارنة في إدارة الحرب، ما أدخلهم لاحقاً منهكي القوة الى تسوية الطائف، فانتزعت منهم صلاحياتهم وامتيازاتهم. ومما أنهك القوة المارونية أيضاً وزاد من عجزها، عوامل أخرى كالاقتتال الداخلي بين الأحزاب والقوى المارونية (مجازر وتصفيات داخلية، مجزرة إهدن والصفرا وحرب الإلغاء...)، بالإضافة الى انقسام الجيش اللبناني.
هذا الوضع الضعيف والواهن للطائفة المارونية استمر طوال عهد الرئيسين الياس الهراوي والعماد إميل لحود.
سلطة الموارنة اليوم
أمام ديناميكية الطوائف الأخرى لجهة ازدياد عددها وامتلاك الثروة والمعرفة وانتشار التعليم في مختلف الطوائف، ومع تراجع القوة المارونية لجهة تناقص العدد والتماسك الداخلي وتنامي الهجرة واستشراء التناقضات والخلافات السياسية ولا سيما بين قيادة الجيش والرئاسة الأولى وبكركي والأحزاب والقوى السياسية المارونية، خفّ وهج الموارنة وضعفت سلطتهم وتراجعت.
اليوم، بات مشهد السلطة المارونية في لبنان مختلفاً عما كان عليه نتيجة تحولات عديدة أبرزها:
1 ــ غدت فرنسا، الأم الحنون للموارنة، تدعم بيت الحريري أولاً، والإدارة الأميركية تدعم الرئيس فؤاد السنيورة. هذه التحولات هي جزء من إطار عام، هو التخلّي الغربي عموماً عن دوره التاريخي في دعم الأقليات وبخاصة الموارنة، نتيجة فلسفة جديدة تغلّب المصالح الدولية للغرب على دعم طموحات الآخرين، ونتيجة موازين القوى الجديدة المعتدلة وتغيير السياسة الدولية بعد عقدة وراثة الرجل المريض تركيا، حيث بات الغرب اليوم أقرب الى دعم القيادات السنية المعتدلة في مواجهة إيران وما يسمى خطر «الأمبراطورية الفارسية». وهذه السياسة الجديدة تقوم على الاستمرار في تحريض الأقليات على مشاريع وهمية بهدف ابتزاز وترويض الأكثرية.
2 - تبدّل الدعم الإسرائيلي الذي سبق أن تدفّق في إحدى المراحل على فريق ماروني قبل أن تتخلى اسرائيل عنه وتفتش عن حليف عربي قوي لا يشكل عبئاً عليها. وقد قال أنطوان لحد بعد اندحار إسرائيل عن الجنوب اللبناني: «خدمنا اسرائيل 25 سنة وتخلّت عنّا خلال 25 ساعة».
3 ــ بعد سقوط حلف بغداد وغياب إيران الشاه (صديق الرئيس كميل شمعون) وانحسار الدعم السوري (الداعم لرؤساء الجمهورية منذ عهد سليمان فرنجية حتى عهد العماد إميل لحود)، غدا الموارنة بلا نصير إقليمي أو دولي نتيجة تبدّل موازين القوى والتحالفات، فتراجع نفوذهم وتأثيرهم. أما اليوم، فنشهد اصطفاف «دول الاعتدال العربي» على ضفة الحكومات السنية، فيما رست سوريا وإيران على شواطئ المقاومة ذات الطابع الشيعي.
4 ــ غياب القيادات التاريخية الجامعة والموحدة للصف الماروني، ما أدى الى خيبة وإحباط وتناقض وتراجع التماسك الداخلي في الطائفة واستمرار هذا التراجع على رغم خروج سمير جعجع من السجن وعودة الجنرال ميشال عون من المنفى.
5 ــ لا بد من الإشارة هنا الى أن الطائفة المارونية عرفت في عهد البطريرك مار نصر الله بطرس صفير أكثر مراحل ضعفها ووهنها وفقدان دورها وتراجعه، لأن خطاب بكركي عجز عن توحيد الموارنة واستنهاضهم بسبب التباسه وغرقه في التوصيف وتهرّبه من تنفيذ مقررات المجمع الماروني والسينودوس التي دعت الى الإصلاح والنهضة والتطوير، فغرقت المؤسسات التابعة للكنيسة المارونية في الركود والتقليدية. هذا الأمر جعل بكركي اليوم مترددة مربكة فاقدة للمبادرة، فتراجع دورها التاريخي والوطني، ما زاد من ضياع الموارنة وغرقهم في الفوضى.
عودة الروح
عودة الدور الماروني يبدأ بالإصلاح وإعادة بناء كنيسة البشر لا الحجر، وتجديد دور الموارنة الحضاري في إطلاق نهضة جديدة. لذلك، من الضروري تحديث وإعادة تشكيل خطاب موحّد وواضح يساعد الطائفة على إعادة ترتيب أولوياتها والاتفاق في ما بينها على آليات الإصلاح والتطوير. وتجدر الإشارة الى أن رجال الفكر والثقافة الموارنة عجزوا كذلك عن تجديد دورهم والمحافظة على ريادتهم في هذه المرحلة، ما قوّض الدور الماروني الفكري والثقافي الرائد.
لقد نال الموارنة امتيازاتهم عن جدارة ومكافأةً لهم على إنجازاتهم وتتويجاً لدورهم وريادتهم في عصر النهضة، لكنهم خبوا وتراجعوا مع تراجع دورهم الطليعي الذي سبق أن منحهم قوتهم وزخمهم. العودة الى هذا الدور تستوجب العودة الى الريادة بإعطاء لبنان معنى جديداً عبر بناء دولة مدنية ديموقراطية ومقاومة لكل ظلم وهيمنة واحتلال، ودولة حرة مستقلة ومنارة في المشرق العربي. فهل هم قادرون على تحديد دورهم الحضاري الرائد في مقاومة مدنية شاملة للظلم والاستبداد، وإطلاق نهضة جديدة في إطار إعادة صياغة علاقات التعاون في مشرقهم؟
صحيح أن الموارنة يستطيعون أن يفاخروا بتعددية الاتجاهات والآراء داخل صفوفهم، وهي مصدر غنى وديموقراطية بينما يحكم الاستفراد والثنائية الطوائف الأخرى، لكن هذا الاختلاف وصل الى حد التناقض والإلغاء والفوضى، مولّداً ضعفاً في السلطة المارونية ومؤدياً الى تراجعها وربما سقوطها. أمام هذا الواقع، من أين تأتي القوة للموارنة ليمارسوا سلطتهم؟ أسئلة كثيرة، عندما يتوصلون الى الإجابة عنها، يستعيدون فعلياً سلطةً فقدوها ودوراً تخلّوا عنه ومعنىً للبنان تجاوزه الزمن. أما الآن، فلا يستحق الموارنة سلطة بدّدوا مقوّماتها. والى أجل غير مسمى، سقطت السلطة المارونية نتيجة فشل قياداتهم السياسية والعسكرية والفكرية والدينية، وإن استعادة السلطة تتطلّب أولاً تغيير القيادة لتكون قادرة على تجديد الدور الرائد للموارنة بتجديد معنى لبنان الحقيقي.
عن يومية الأخبار اللبنانية.